البدايات مهمة، لأنها لحظة ميلاد طفل يبكى ويبتسم، وميلاد حب يتفجر بعاطفة ولع أو غضب أو غيرهما، وميلاد تعارف وصداقة تأخذ وتعطى، وميلاد تاريخ من التواصل والتفاهم، وميلاد مشوار من النضال فى الحياة والقضية، وميلاد صوت وشهادة وميلاد تمرد وثورة، لذلك كانت البدايات ميلاد النهايات.
18و19 يناير 1977، خرجت جماهير مصر غاضبة إلى الشوارع رافعة لواء ناصر، حاملة حلمه فى بيت سعيد لكل أسرة، فى هذين اليومين عبرت كل شوارع وميادين القاهرة محمولا على الأعناق، صارخا: «عبدالناصر قالها زمان الاستعمار فى الأمريكان»، وفى نهاية اليوم الأول وجدتنى فى منزل صديقى الراحل عماد بشبرا ومعى بعض من رفاق الدرب، وفى نهاية اليوم الثانى وجدتنى فى منزل الدقى خلف مخبز الجهاد ومعى صحبة من المناضلين عبدالله السناوى وحسين عبدالغنى وصفوت حاتم ومحمد حماد وآخرين، لا يساعدنى الزمن ومروره على تذكرهم، أما صاحب المنزل الرائع فلقد كان المناضل الناصرى صالح أبوسمرة، من فلسطين الحبيبة، وكان معه شريك، طالب إعدادى طب القاهرة من فلسطين أيضا جمال عبدالناصر الخطيب، فى زمن مجانية التعليم لأبناء فلسطين، وهكذا كان الميلاد فى تلك اللحظة ولمدة شهر تقريبا هاربين من الاعتقال لمشاركتنا فى انتفاضة الخبز.
تواجدنا معا وتعايشنا معا، وكان يظللنا دفء من فلسطين، واستثمرنا الفرصة وعقدنا جلسات تثقيف يومية حتى أصبح طالب الطب حاصلا على شهادة الكادر فى الحركة الناصرية، وبعد شهور من هذا المعسكر التثقيفى والإنسانى جمعنا سجن القلعة معا، وأضافوا علينا كمال أبوعيطة، وكانت التهمة قلب نظام الحكم. وتحت سياط التعذيب، خرج جمال الخطيب مصابا بضمور فى عضلات اليد اليمنى، بسبب التعليق على باب الزنزانة، ورحل فورا من مصر ومعه صالح أبوسمرة، وظل جمال يذكرنا كل عام بموعد الاعتقال، بل أهدانى عند زيارته فى الأردن لوحة رخامية محفورا عليها جزء من قصيدة العبقرى أمل دنقل «لا تصالح »وتاريخ الاعتقال. وناضل جمال حتى استكمل مشوار تعليمه الجامعى فى العراق، وفيها تعرف على شريكة حياته، وبعد سنوات لا أتذكر عددها قابلت جمال فى الأردن طبيبا نفسيا شهيرا، ومجادلا عظيما فى الفلسفة والفكر الإنسانى والقومى وقضيته اليومية فلسطين.
وبكرم فائض استضافنى فى منزلة العامر مثل قلبه، وأهدانى مجموعة من الدراسات الاستراتيجية لخبراء دوليين عن الشرق الأوسط والاستراتيجية الأمريكية والصراع العربى الصهيونى، وتواصلنا عبر الهاتف والإنترنت، وأتذكره عندما حدثنى عن مشروع كتاب يؤلفة تحت عنوان «على مذابح الحكم - قراءة فى نصوص إسلامية وتاريخية»، وطلب منى كتابة مقدمته، وصدر الكتاب عام 2008 وفيه يتناول السلطة فى التاريخ الإسلامى، ولم يكن هذا فقط هو نتاج عقل جمال الخطيب، بل صدر له العديد من الأبحاث، كان منها «تعديل السلوك الإنسانى - وسوريا محاولة للفهم - وإلى شواطئ طرابلس - واللون والنفس - وحدث فى أكتوبر» والعديد من الدراسات المعنية بفلسطين التى حلم بها حتى الموت، ولعله الآن يسكن غيمة تعبر سماء الوطن الحبيب، وهكذا عاش جمال مرهق الروح من طواف الفكر، وأمسى قلبه منهكا من آلام الحلم الفلسطينى، الذى ظل معلقاً فى رأسه، فى زمن الحق الضائع، إلى أن جاءنى صوته قلقا فى آخر مهاتفة وهو يحدثنى عن ثورة 30 يونيو فى مصر، وأخيرا ثوى فى جبهة الأرض الضياء حيث يشارك المحبين الطيبين التراب.