كتب : عبدالوهاب عليوة منذ 3 دقائق
فى طابور طويل يصطف العشرات من الآباء والأمهات صباح كل يوم، يحملون أطفالهم الرضع، من عمر يوم، داخل أورقة مستشفى «أطفال مصر» بحى السيدة زينب، التابع لهيئة التأمين الصحى، ينتظرن دورهم لإجراء جراحات القلب لأطفالهم الذين يعانون عيوبا خلقية.
عويل وبكاء الأطفال، المتقطع أحيانا والمستمر أحيانا، يتضاعف مع شدة ألم قلوبهم المريضة، الذى أنهك أجسادهم الرخوة، ويرسم الحزن على وجوههم البريئة، ومع كل هذا العذاب تفشل أمهات الأطفال فى استعطاف الروتين والعاملين عليه، فلا تهتز مشاعرهم لصرخات الرضع وأنفاسهم المتقطعة، وقلوبهم تتوقف الواحد تلو الآخر، بفضل «ثلاثى الفساد» بالمستشفى: الإهمال والروتين وإهدار المال العام.
«الوطن» تجولت داخل المستشفى الذى يحمل اسم «أطفال مصر»، ويضم 213 سريرا ويستقبل 60% من حالات قلب الأطفال من محافظات مصر المختلفة، ويجرى سنويا 1200 عملية قلب مفتوح وفقا لتصريحات مدير المستشفى الدكتور محمد طه، كما يضم المستشفى 20 حضّانة للأطفال المبتسرين ووحدة لأمراض الدم وأخرى لتشوهات العمود الفقرى للأطفال وثالثة للنخاع.
يتكون المستشفى من ثلاثة مبانٍ منفصلة ضخمة، تربطها ببعضها طرقتان فى الطابق الثالث، يمكن العبور منها إلى أى مبنى من الثلاثة، وبينما ينتشر فى أروقة مبانيها الثلاثة أفراد الأمن بزيهم الأزرق الفاقع، المبنى الأول خاص بالعيادات الخارجية، يتردد عليه الأهالى يحملون أبناءهم المرضى لتوقيع الكشف عليهم، تستقبلهم أكوام الرتش الناتجة عن أعمال الترميمات التى تتم فى الدور الأرضى، الذى ينتظرون فيه دورهم، بينما الأطباء يقبعون فى الدور الثانى.
«أحلام السداوى»، سيدة فى منتصف العقد الثالث من العمر، تخلع طرحتها السمراء لتحمى بها طفلها من الغبار المتطاير من أعمال الترميم: «الواد صدره مكتوم لوحده».. كلمات قالتها السيدة لأحد العمال الذى يتولى خلط الأسمنت والرمل معا بالمياه، ليبعد عن المكان الذى يقبعون فيه.
«أعمال الترميمات لا بد منها، ونحاول قدر المستطاع إبعاد المرضى عن الأماكن التى توجد بها أعمال التجديدات»، هكذا برر الدكتور محمد طه أعمال الترميم التى تتم داخل المبنى الذى ينتظر فيه المرضى وتوقيع الأطباء الكشف على الأطفال فيه.
أمهات حائرات يتشحن بالسواد حزنا على فلذات أكبادهن «لو أقدر أعرف مالك بس».. كلمات يرتفع بها صوت سيدة تحمل طفلها الرضيع على يدها ولا يتوقف عن البكاء، تسعى لتهدئته لكنها تفشل أمام نوبات البكاء المستمرة، نداء الممرضة على الأطفال المرضى الواحد تلو الآخر، المشروط بأن يرافق الطفل المريض شخص واحد فقط، ليدخل إلى غرفة الكشف لا يؤثر على أعداد المنتظرين فى الخارج، بسب انضمام أمهات جدد يحملن أطفالهن المرضى، ليجلسن إلى جوار القابعين أمام العيادات الخارجية.
يعانى المستشفى، الذى يعالج الأطفال من جميع محافظات مصر، وفقا لتقرير الجهاز المركزى للمحاسبات، الذى حصلت «الوطن» على صورة منه، عدم كفاية أطباء الطوارئ وقله أفراد الخدمات المعاونة بأقسام ووحدات المستشفى المختلفة، ما تسبب فى تأجيل إجراء العديد من العمليات للأطفال المرضى.
ويأتى المبنى الأهم والأكبر فى المستشفى الذى يتكون من 7 طوابق ويضم 213 سريرا، وفيه يتم حجز الأطفال الذين تُجرى لهم العمليات الجراحية، يتسم الطابق الأرضى الخاص بالاستقبال والثالث الذى توجد به غرف العناية المركزة بالهدوء والنظافة، بينما الطوابق الخمسة الأخرى، خاصة التى يوجد بها غرف المخازن، تمتلئ طرقاتها ببعض الأجهزة القديمة التى تتبع المستشفى، التى رصدها تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات الصادر فى يوليو الماضى؛ حيث رصد وجود أجهزة طبية لا يتم استخدامها، إما لعدم الحاجة إليها وإما لعطلها، موضحا بالتفاصيل أسماء هذه الأجهزة واستخداماتها، مؤكدا أن معظم هذه الأجهزة المعطلة متروك فى المخازن منذ عام 2009، يبلغ ثمنها 3٫4 مليون جنيه، بخلاف أجهزة صالحة للعمل قدر التقرير ثمنها بـ800 ألف جنيه واعتبرها إهدارا للمال العام.
وتضمن التقرير وجود رواكد قيمتها مليون جنيه منذ عدة سنوات بالمخازن، منها الجديد ومنها ما أتلفه التراكم لفترات طويلة فى المخازن، موضحا أن بعض الوحدات والمستشفيات التابعة للهيئة فى أشد الاحتياج إليها، ورغم ذلك مهملة داخل المخازن بالمستشفى.
يهرول محمد يوسف، ذو الـ35 عاما، رافعا جلبابه البلدى بقبضه يده، لكى يسرع الخطى إلى مكتب مدير المستشفى، من أجل تحديد موعد فى أقرب وقت ممكن، لإجراء عملية قلب لابنه الذى لم يتجاوز عمره 9 أيام، يصر طبيب الاستقبال على انتظار تشكيل لجنة طبية أولا، لتقرر ما إذا كان يستحق إجراء العملية وتحدد موعد إجرائها، مبررا ذلك بأنه لا يستطيع اتخاذ قرار إجراء العملية دون العرض على اللجنة الطبية وفقا للإجراءات المتبعة، مطالبا الأب بتقديم أوراق ابنه فى المبنى المجاور ليأخذ دوره.
هذه الإجراءات وصفها الأب بالروتينية التى لا تراعى الحالات المرضية الخطرة، وصعد إلى مكتب مدير المستشفى، الذى يقبع بالدور الثانى، لتستقبله السكرتيرة بالاستعلام عن مشكلته، يحكى لها قصته، مؤكدا لها أن حالة ابنه متأخرة ويحتاج إلى إجراء العملية حتى لا يموت، تطلب منه بطاقة التأمين الصحى وكارنيه التأمين، يؤكد لها أن عمر ابنه لا يتجاوز الـ9 أيام وليس لديه كارنيه تأمين، تتعاطف مع حالته، مسترسلة فى حديثها أنها سوف تحجز له اليوم على أن يأتى غدا بكارنيه التأمين من المكان الذى جاء منه بالبطاقة التأمينية، تغيب السكرتيرة لخمس دقائق لتعود بعدها لتؤكد له عرض ابنه على اللجنة الطبية يوم الأربعاء، موضحة له أن هذا استثناء نظرا لعمر الطفل الذى يقدر بأيام معدودة وحالته الصحية الخطيرة «لسه يوم الأربعاء اللى جاى؟» هكذا جاء رد الأب ليؤكد لها أنه جاء إلى هنا لتقديم موعد العملية وليس اللجنة التى سوف يعرض عليها لإجراء العملية، تقاطع حديثه الموظفة: «موعد عرض ابنك على اللجنة لو انتظر دوره هييجى بعد شهر، وبعدين إحنا هنا فى المستشفى ما بنعملش عمليات للأطفال للى لسه مولودة، اللجنة سوف تحوله إلى مستشفى أبوالريش الجامعى للأطفال»، يكرر الأب الذى لم ييأس: «طيب ينفع ابنى يتعرض على اللجنة بكرة الاثنين أو الثلاثاء؟»، لتنهى الموظفة كلامها معه: «بكرة انت هتجيب الورق اللى ناقص، ويوم الثلاثاء اللجنة أجازة، يعنى مش هينفع غير يوم الأربعاء، واللجنة هى اللى تقرر موعد العملية».
قائمة الانتظار الطويل التى تتجاوز الشهرين فى حالة عدم الاستثناء للحالات الخطيرة لا تعنى ضمان خدمة جيدة؛ فقد أثبت تقرير جهاز المحاسبات وجود قصور فى تقديم الخدمات الطبية للمرضى، مثل عدم القيام بتحاليل الهرمونات، وتحليل t3 وt4 الخاص بأمراض المناعة، لعدم توافر الأجهزة الخاصة بتلك التحاليل، وكذلك تحليل بزل النخاع لعدم وجود استشارى لإجراء التحاليل.
والأمر نفسه فى وحدة الأشعة؛ حيث أشار التقرير إلى عدم قيام المستشفى بإجراء الأشعة المقطعية والرنين المغناطيسى لعدم توافر الأجهزة الخاصة بتلك الأشعة.
وأوضح التقرير عدم وجود بعض الفصائل الدموية، الأمر الذى أدى إلى تأجيل بعض العمليات بمركز جراحة قلب الأطفال، كما حدث مع المريض عمر محمد ميهوب، الذى قام الطبيب بتأجيل إجراء العملية له أكثر من مرة لعدم كفاية أكياس الدم (فصيلة o).
ونوه بحاجة المستشفى إلى العديد من الأجهزة والتجهيزات الطبية وغير الطبية لتحسين مستوى الخدمة المقدمة للمرضى.
كما تأجل إجراء العديد من العمليات بقسم القلب لعدة أسباب، أبرزها: عدم وجود أسرَّة خالية فى العناية المركزة أو لعدم كفاية أعضاء هيئة التمريض.
الدكتور محمد طه، مدير المستشفى، رفض التعليق على تقرير الجهاز المركزى واكتفى بتأكيده أنه مبالغ فيه وأن إدارة المستشفى قامت بإرسال الرد على التقرير إلى فرع هيئة التأمين الصحى بالقاهرة التى تتولى بدورها الرد على الجهاز المركزى للمحاسبات.
الوضع خارج المستشفى أكثر سوءا من داخله؛ حيث يفترش أهالى المرضى القادمون من محافظات مصر المختلفة الأرض أمام مدخله الرئيسى، وعلى بُعد أمتار من تل القمامة يرقد يوسف ممدوح، الشباب الثلاثينى، القادم من مدينة شبين القناطر بالقليوبية أمام المستشفى مفترشا لبطانية حمراء فاقع لونها، وبجواره بعض أقاربه، وسط العشرات من أسر المرضى الذين جاءوا لنفس السبب، حتى يؤذن لهم بزيارة مرضاهم فى الثانية ظهرا، يسمح فقط للحالات المرضية الطارئة بالدخول قبل مواعيد الزيارة بعد مشادات متكررة مع أمن البوابة بسبب إصرار المرافقين لهم على الدخول معهم، وهو ما يرفضه الأمن.
يسترخى الشاب ذو الملامح الريفية على جدار المستشفى، ليحكى عن معاناة الانتظار التى يعانيها مع باقى أفراد أسرته: «ابن أخويا عامل عملية قلب مفتوح منذ أسبوع، وقبلها أسبوعان من المعاناة فى التردد على المستشفى من أجل الاستعداد لإجراء العملية، كل يوم يتردد عليه أحد أفراد الأسرة، الذى يصطحب معه من يرغب فى زيارته من أهالى القرية»، يرفع يده اليمنى مشيرا بسبابته إلى أكوام القمامة التى تقبع على بعد مترين من مدخل المستشفى الرئيسى: «الزبالة دى تمرض الأطفال لوحدها، خاصه أن مناعتهم ضعيفة، وإصابتهم بالمرض تجعلهم عرضة لمضاعفات».
تدق عقارب الساعة الثانية ظهرا لينتهى الحديث بنهوض أهالى المرضى من جلستهم الأرضية، لتسليم تذاكر الزيارة التى حصلوا عليها مقابل 4 جنيهات من الشباك المجاور، يتسلم فرد الأمن التذكرة ويسمح لصاحبها بالدخول.
هذا هو المشهد بحذافيره داخل وخارج المستشفى الذى يتبع الهيئة العامة للتأمين الصحى، والذى يستقبل يوميا عشرات المئات من الأطفال المرضى برفقة أمهاتهم وآبائهم وأقاربهم.
>
وثيقة تثبت تدهور المستشفى