1
في الثامن عشر من أكتوبر، عام 1978 مات 918 مواطن أمريكي. انتحروا بسم السيانيد، بعد خطبة عصماء ألقاها عليهم نبيهم “جون جونز” عن المؤامرة الرهيبة التي تحيكها المخابرات الأمريكية ضد مدينتهم الفاضلة. اسمهم كان “معبدالشعب”،طائفة تأسست في الخمسينيات على يد جونز، واستغرق الأمر منهم حوالي 20 عاماً حتى النضوج. بعد أن وجدت دعوته طريقها للإنتشار، بدأ جونز في فتح مكاتب أخرى في مدن وولايات مختلفة. مع الوقت أصبح للطائفة ثقل سياسي واضح في أي عملية انتخابية، لدرجة أنه تم تعيين جونز مسئولاً عن لجنة الإسكان بعد أن فاز حليفهم جورج موسكون بولاية سان فرانسيسكو عام 1975م.
تمتع جونز بدعم لم ينله أي رئيس طائفة دينية من الطوائف الكثيرة المنتشرة هناك، قابل نائب الرئيس الأمريكي والسيدة الأولي عدة مرات، وأصبح ضيف شرف أساسي في العديد من حفلات الإستقبال. طوال هذا الوقت، كان جونز يتعرض لحملات صحفية عديدة من بعض الإعلاميين أو الأعضاء المنشقين عن الطائفة.
الحدث الفارق هنا هو حدث مشترك: الهجرة الكبرى، هجرة يمكنك أن تجدها عند الأمريكيين أتباع معبد الشعب أو الجهاديين في صفوف داعش. فكر جونز كثيراً في أكثر الأماكن مناسبة للهجرة، الضغط الإعلامي المستمر من أواخر عام 1973م قد يسفر عن قمع شرطي. بالنسبة لجونز فإن الحكومة الأمريكية رأس حربة الرأسمالية لن تترك دعوتهم لتنتشر، لا يمكن السماح لدعاة السلام والمساواة هؤلاء بتهديد شروط التواجد الرأسمالي القائمة على القهر والتفرقة والعنصرية والإستعباد.
معبد الشعب كان يدين بالدين الأكبر في القرن العشرين: الشيوعية. المئات من الشباب ينضمون لهم. جذابون تماماً بالنسبة لموضة الستينيات والسبعينيات: شيوعيون حالمون كلهم يشبهون المسيح في شكله وسلامه. يتحدث جونز عن اشتراكيته، لكنه لا يتوقف عن استعارة صور وتشبيهات مسيحية في مزيج حالم. أطلقوا على مذهبهم “اشتراكيةالحواريين”.
حين بدأ جونز يؤمن بضرورة الهجرة، فكر في أكثر الأماكن مناسبة لهم. فكر في كندا، لكن زيارة منه إلى غويانا - بلدة الكاريبي الصغيرة في شمال أمريكا الجنوبية - قررت أن هناك أكثر الأماكن مناسبة لهم. البلدة صغيرة، يمكن التفاهم مع حكومتها. الحكومة هناك سعيدة بأن يعيش تكتل من المواطنين الأمريكيين بهذا الحجم على حدودها مع فنزويلا، كان هذا بمثابة ضمانة كافية لأن الفنزويليين سيفكرون ألف مرة قبل اجتياح حدودهم إذا كان الأمر متعلقاً بحياة مواطنين أمريكيين. بعد مفاوضات مطولة، وافقت الحكومة هناك على بيع مساحة من الأرض تزيد عن الـ 3800 فدان لهم.
بحلول عام 1975، بدأ 500 شخص من المؤمنين في تجهيز مدينتهم الجديدة. أسموها “جونزتاون” - مدينة جونز - واستمرت عملية التجهيز لمدة عام كامل حتي حدثت الهجرة الكبرى. بحلول صيف 1976 وبعد حملة إعلامية قوية أسفرت عن التضييق على مكاتب معبد الشعب في سان فرانسيسكو، هاجر المئات إلى جونزتاون، لكن الحدث الأبرز كان هجرة النبي جونز نفسه. تحكي الأساطير أن جونز قد هاجر في الليلة التي عرف فيها أن مجلة نيو ويست ستنشر تقريرا يتحدث عن اتهامات بالتحرش والإعتداء تنال عددا من أعضاء الطائفة، لكن تفصيلة كهذه ليست مهمة جداً حين تروى الأسطورة.
كان أعضاء الطائفة المهاجرين يعيشون على الواردات التي تصل إلىهم من النقود الهائلة التي استحوذ عليها جونز في أمريكا دعماً لمنظمته أو لأفرادها بالإضافة لنقود الرعاية الإجتماعية التي حصل عليها أفراد الطائفة من الحكومة الأمريكية كمواطنين أمريكيين. وقّع جونز اتفاقية مع حكومة غويانا تقضي بالسماح لكوميونتهم باستيراد العديد من السلع والبضائع معفية من الجمارك، وهو قرار أظهرت التحقيقات فيما بعد أنه كان يسهم في تسهيل عملية تهريب الأسلحة والمخدرات للمجموعة.
بوصول جونز، تحولت الكوميونة الشيوعية اللطيفة إلى هيكل إداري بيروقراطي. قبله كان حياة المؤمنين هناك عبارة عن ممارسة للرياضة والجنس والمخدرات، مناقشات مطوله في شئون الحياة والسياسة، مشاهدة الأفلام والإستماع إلى الموسيقى، مدارس ليلية لتبادل المعرفة وتعليم الأطفال، حياة استرخاء تامة بلا مشاكل أو منغصات تغري أي إنسان طبيعي يعيش في زحام المدينة الخانق ومتطلبات الحضارة الثقيلة في أن يفكر في الإنضمام إلىهم. بعد وصول جونز، أخذت تقسيمات الهياكل الإدارية والقطاعات طابعاً سلطوياً، استبدلت مشاهدة الأفلام بمشاهدة أفلام ووثائقيات الدعاية السوفيتية، المدارس الليلية تحولت لحلقات للإستماع لعظات جونز الثورية كطقس يومي. اضطر المؤمنون للعمل الرسمي لمدة 12 ساعة يومياً بأجازة يوم واحد في الأسبوع، وهو نظام عمل لم يتغير إلا حين تولت مارسيلين زوجة جونز إدارة الشئون اليومية في المدينة الفاضلة بعد مشاكل جونز الصحية.
استمرت الحملات الإعلامية على جونز ومدينته، اتهامات وشهادات باحتجاز أشخاص هناك ضد رغبتهم ومنعهم من مغادرة المدينة. اهتم عضو الكونجرس ليو ريان بالموضوع، صمم على زيارة المدينة والتعرف على أحوالها. العديد من قصص مؤثرة وشهادات تفطر القلب عن تعذيب وعقابات، أطفال يجري تشويه عقولهم وحياتهم بأفكار جونز الغريبة. كل هذا يحدث على خلفية سياسية أكبر، المدينة في شمال أمريكا الجنوبية، مناطق حدودية مهمة بجوار دول تلعب فيها أمريكا في هذا الوقت بالنار. اختلط السياسي بالإنساني ككل مرة. ضغوط تُمارَس على حكومة غويانا، وجود المدينة نفسه أصبح مرهوناً بأبعاد وحسابات وتفاعلات أخرى.
في تلك الليلة - 18 أكتوبر 1978م - جمع جونز أعضاء مدينته. الإجتماع كان مسجلاً على شريطصوتي يحفظ الحدث من أوله إلى آخره. يخبر أتباعه بأنه يعرف أن أحد مريديه سيقتل عضو الكونجرس ليو ريان اليوم. حديث طويل عن الأعداء، عن المؤامرة التي تحيق بأسوار مدينتهم، عن حلم الحرية التي بات مهدداً، وعن بشاعة العالم الخارجي الذي يكره أن يرى مجموعة من الأحرار تعيش في سلام. سيستولي الأشرار على أطفالهم، سيعلمونهم كيف يصبحون فاشيين مثلهم، لن يكتفوا بالتخلص من وجودهم المادي نفسه، لكن تاريخهم نفسه سيُمسح، سيسطرون كلاماً جديداً في عقول أبناءهم حتى تنتهي بذرة الحرية تماماً من عقولهم مستبدلين إياها ببذرة قمع وفاشية كي تتمكن الرأسمالية من الإستمرار. لكل هذا اقترح جونز انتحاراً ثوريا، يقتلون أطفالهم وأنفسهم. إذا كان وجودهم المادي معرّض للخطر في كل الأحوال، فإن الفعل الثوري الحقيقي هو في إحباط مؤامرتهم على تاريخهم وعقولهم. إذا كان الرأسمالية تظن أن باستطاعتها محو ذكراهم فإن انتحارهم كان بمثابة ترك علامة لا تمحى في كتاب الزمن. لن يمكن لأي مؤامرة بعدها حدث بهذا الحجم أن تقتل بذرة الحرية.
تتحدث الشهادات عن زجاجات السيانيد مفروشة أمامهم أثناء الخطاب. أحد المؤمنات ت