أخبار عاجلة

فى السودان طريقان: مستقيم وأعوج

الإمام الصادق المهدى

فى لقاء جماهيرى فى مسجد خليفة المهدى بأم درمان فى يونيو 2012، طرح حزب الأمة أطروحة حول المصير الوطنى خلاصتها: أن النظام السودانى قد صار محاصراً من عدة جبهات، أهمها: جبهة اقتصادية، فقد اعتمد فى ميزانيته على نفط الجنوب ولم يحتط للانفصال، وعندما وقع الانفصال فى عام 2011 انكشف حال النظام مالياً، فقرر البرنامج الاقتصادى الثلاثى (2011- 2014). البرنامج فشل فى كل أهدافه ولم ينفذ منه إلا زيادة الأعباء على المواطنين برفع الدعم عن المحروقات، ما أشعل الشارع السياسى ضده فى سبتمبر 2012، والموقف المالى الاقتصادى مازال على حاله الآن.

جبهة الحصار الثانية أمنية، فالنظام يواجه ست جبهات قتال، ثلاث فى دارفور، وفى أبيى، وفى جنوب كردفان، وفى جنوب النيل الأزرق. جبهات فشل النظام فى احتوائها وتستنزفه عسكرياً ومالياً.

والجبهة الثالثة دولية، فمادام موقف النظام من قرارات مجلس الأمن هو عدم الامتثال لها فإن المجتمع الدولى لن يتجاوب مع إعفاء الدين ضمن برنامج دولى لإعفاء ديون الدول الفقيرة المدينة، ولن يرفع العقوبات الاقتصادية، ولن يفك تجميد استحقاقات السودان ضمن برنامج الكوتنو الأوروبى.

جاء فى طرح حزب الأمة أن هذا الحصار كفيل بتقويض النظام لقيام نظام جديد، وأن أمام النظام الحاكم خيارين: الجلوس مع قوى الرأى الآخر على مائدة مستديرة لاستنساخ كوديسا جنوب أفريقيا سبيلاً لنظام جديد، أو مواجهة انتفاضة شعبية حتمية.

فكر النظام فى خياراته وقرر أن يطرح حلاً عبر الحوار بطريقته، فكان إعلان الوثبة للحوار فى يناير 2014. تجاوب كثيرون بقيادة حزب الأمة مع مبادرة الوثبة، ولكن اتضح أن النظام غير جاد فى مبادرة الوثبة بدليل الحرص على أن تكون آلية الحوار برئاسته، وبدليل حرمان القوى السياسية المستجيبة للحوار من الحرية لكيلا تقول إلا ما يرضى النظام. لذلك رفعت القوى السياسية الوطنية يدها من حوار (7+7) الذى لم يبق فيه إلا قوى موالاة النظام، وهى قوى موالية لا يحتاج النظام للحوار معها بل يكفى أن يأمر فيُطاع.

بالتوازى مع الحوار فى حضن النظام توجد آلية حوار من أجل السلام بوساطة الاتحاد الأفريقى بين النظام والحركة الشعبية، قطاع الشمال، تحت القرار الدولى رقم (2046). وبالتوازى مع هذه العملية هنالك تفاوض بين النظام وحركات دارفور الموقعة على اتفاقية الدوحة لكى توقع على تلك الاتفاقية.

هذه المسارات الثلاثة يُقبل عليها النظام السودانى لأنها تضعه فى موقف المعطى للآخرين ما يراه مناسباً، فتجعله مهيمناً على الحوارات وتمكنه من إعادة استنساخ نفسه، مع زخرفة جديدة تمكنه من الاستمرار بلا تحول جذرى.

إلى جانب هذا التوسيع الشكلى للنظام، والذى يتوهم النظام أنه يحصنه من أى انتفاضات شعبية كما يحصنه من أى انقلابات عسكرية ترددت احتمالاتها منذ اتهام صلاح قوش واتهام ود إبراهيم وزملائه، قدّر النظام أنه بالاستعانة بقوات قبلية غير نظامية يهدد فى آن واحد أى حركات شعبية أو عسكرية مضادة. لم يراع النظام تأثير هذه الإجراءات السلبية على نصوص الدستور، ولا على صحة مؤسسات الدولة الحديثة.

هذه هى معالم سياسات النظام فيما يتعلق بحوار وطنى لن يتجاوز لم شمل تيارات ذات مرجعية إخوانية تحت مظلة المؤتمر الوطنى، وعمليات سلام لن تتجاوز أطر اتفاقيات السلام السابقة التى أبقت الدستور كما هو، وأبقت كل الصيد فى جوف الفرا، أى فى جوف الحزب الحاكم، أى أن حوار (7+7) الحالى وعمليات السلام التى اعتمدها النظام مهما صحبها من ضجة إعلامية سوف تفسر بالماء، وتبقى أزمات البلاد كما هى، ويبقى النظام الذى نكب البلاد لربع قرن كما هو بمساحيق مستحدثة.

ولكن المشهد السياسى السودانى تطور، فإن أكبر قوى سياسية شعبية فى المركز، أى حزب الأمة، نفضت يدها هى وآخرون من الحوار العبثى وعمليات السلام العقيمة، كما أن أكبر قوة سياسية فى الهامش، أى الجبهة الثورية، أطلت على البلاد بتكوين جديد وحّد الفصائل المسلحة فى كيان واحد. هاتان القوتان بعد حوار جاد وشامل اتفقتا على (إعلان باريس) الذى تلقف زمام المبادرة السياسية فى البلاد، وتجاوز فكرة إطاحة النظام بالقوة الخشنة لتحقيق ذلك بالقوة الناعمة عن طريق حوار باستحقاقاته المحددة، حوار قومى لا يستثنى أحداً ولا يهيمن عليه أحد، يربط حل أزمة الحكم بعملية السلام، ويوفر الحريات العامة.

هذا هو الحوار المجدى باستحقاقاته، والذى يرجى أن يحقق السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطى الكامل، وإن تخلف عنه النظام فخريطة الطريق تتجه نحو انتفاضة شعبية سلمية.

استقبلت القوى السياسية والمدنية السودانية (إعلان باريس) بالترحيب الحار، ما كشف عزلة النظام فصار حواره الوطنى الحالى مجرد إعادة اصطفاف للقوى السياسية ذات المرجعية الإخوانية، وتوقفت عملية السلام فى محطة الفصائل الموقعة التى مهما قيل عن توقيعها فإنه لم يحقق السلام العادل الشامل المنشود.

وحتى الآن عبّرت قوى أفريقية وعربية ودولية عن اعتبارها (إعلان باريس) اختراقاً تاريخياً، وهو كذلك.

المرجو من السادة ثامو أمبيكى عن الاتحاد الأفريقى، ومحمد بن شمباس عن اليوناميد، وهايلى منكريوس عن الأمم المتحدة، التخلى عن عمليات السلام التى لن تحقق السلام المنشود، وأخذ مستجدات الواقع فى الحسبان، والتنسيق فيما بينهم لدعم متطلبات (إعلان باريس).

ويرجى أن تعلن الولايات المتحدة، بل سائر الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن، والاتحاد الأوروبى، والاتحاد الأفريقى، والجامعة العربية، ترحيبها بوثيقة حظيت بهذا التأييد السياسى فى السودان، وانطوت على مبدأين مهمين هما: التغيير السياسى السلمى، ووقف الحرب، والتطلع لسودان واحد يستظل بالعدالة والحرية والسلام.

السودان أمام خيارين: هما سودان التسلط الحزبى المأزوم الذى تحاصره سياساته القاصرة، والسودان العريض الذى ينعم بالحرية والديمقراطية، والعدالة، والتنمية، والسلام، والقبول الدولى.

أمامك فاختر أىَّ نهجيك تَنْهج

طريقان شتى مستقيم وأعوجُ

اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة

SputnikNews