أخبار عاجلة

وكانت عينه ضيقة!

على طريقة «سى. إن. إن» الأمريكية فى تجسيد الإثارة عند تغطية الأخبار العاجلة للكوارث والمصائب والحروب، انطلق قاصفا صوت المعلق تشاد مايرز، خبير الأرصاد الجوية، ليقول وهو يشير إلى صورة فضائية للإعصار «هايان» الذى ضرب خاصرة الفلبين مُؤخَّرًا: «إنه واحد من أكبر اثنى عشر إعصارا فى تاريخ كوكب الأرض، ورياحه هى الأسرع لأن عينه ضيقة للغاية، بينما حجمه يكاد يغطى مساحة الفلبين كلها، كما أنه يحمل كمية هائلة من المياه». وفيما استمر «مايرز» فى حديثه كان ذهنى متوقفا بدهشة أمام ربْطه بين شدة تدمير الإعصار وضيق عينه، علما بأن هذه العين لا يقِلّ قطرها عن خمسة كيلومترات!

فى الفراسة الدارجة يشير «ضيق العين» وصغرها إلى الخداع واللؤم، وفى المأثور الشعبى بأكثر من بلد عربى يُضرب المثل بالعين الضيقة على الأنانية والبخل لصاحبها الذى يأخذ ولا يعطى. وقد بدت لى كل هذه التفرسات للبشر موحية للربط بين ضيق عين الإعصار وقسوته، وذكَّرتنى بتضييق الرُماة عيونهم عند إصابة «الأهداف»، سواء كانت هذه الأهداف شخوصا خشبية أو أطباقاً أو طيوراً أو بشراً يجرى قنصهم! كما ذكرتنى بأن العدائين فى منافسات السرعة يضيقون عيونهم تأهبا للانطلاق. ومن كل هذه التداعيات أدركت أننى، لاشعوريا، أبحث فى الأعاصير المدمرة عن تفسير لنوازع التدمير المتضاربة التى ترهق وطننا هذه اللحظة!

تتكون الفلبين من 7107 جزر تشكل أرخبيلا بين غرب المحيط الهادى وبحر الصين الجنوبى، وهى موعودة على الدوام بالأعاصير التى يقارب عددها عشرين إعصارا فى الموسم الواحد. ومع بدايات هذا الشهر سادها طقس حار شديد الرطوبة مما يولِّد طاقة هائلة داخل الغلاف الجوى، تُنشئ رياحا عاتية فوق سطح البحر، وتتكون منها دوامة أو عاصفة رعدية، ينبثق عنها الإعصار على هيئة قُمع عملاق دوَّار ينزلق على مياه البحر ثم يكتسح اليابسة، وكل هذا يحدث فى وقت وجيز وبتسارع يبعث على الذهول، مما يفسر هول الخسائر المادية والبشرية التى تسببها الأعاصير المدمرة حتى فى بلدان غنية ومتقدمة كالولايات المتحدة التى ضربها الإعصار «كاترينا» فى أغسطس 2005 !

تبدأ الكارثة ببزوغ وديع عندما يتجمع هواء دافئ رطب ليشكل كتلة هوائية ضخمة فوق سطح البحر، تندفع هذه الكتلة لتخترق طبقة من الهواء البارد بفرقعة عظيمة، ومن هذا الاختراق المدوى يتشكل تيار هوائى دافئ مثقل ببخار يصعد عموديا، ومع صعوده يبرد ليكوِّن سُحبا كثيفة تتجمع على هيئة سندان أسود هائل، يجتذب مزيدا من الغيوم وتتدفق باتجاهه سحب شريطية فى سرعة هائلة، هكذا تتكون العاصفة الرعدية التى تظهر على شاشات الرادار كتشكيلات معقوفة ذات مخالب تنثر البَرَد ورشاش الماء، ومن قلب هذا الهول السماوى يهبط متلوياً إسفينا عملاقا يقارب طوله 15 كيلومتراً، وسرعان ما يتحول إلى قُمع دوَّار يكتسح اليابسة بتوحش.

يعمل الإعصار القُمعى بمثابة شفاط وخلاط معاً، يشفط كل ما تصادفه على الأرض عينه السفلى، فيرتفع المشفوط فى جوفه الذى هو قناة صاعدة تنتهى بعينٍ مُناظِرة عند القمة، وقد يبقى المشفوط فى هذه القناة طافيا إلى أن يهبط، حيث يحطه الإعصار، وقد حدث أن رفع الإعصار بيتا كاملا، وأنزله فى مكان بعيد دون أن تتحطم فيه نافذة أو ينخلع باب. كما تكرر رفع الأعاصير سفنا ضخمة من البحر وإنزالها على البر بين البيوت أو فوقها. وقد سُجِّل أن السماء أمطرت على الناس سمكا، كانت عين إعصار سفلية قد شفطته أثناء المرور على البحر، وعند البر لفظته العين العلوية! أما إذا انفلت المشفوط من القناة، وصار أسير دوران جسم الإعصار، فهو يتحول إلى فريسة فى خلاط عملاق. هكذا تتفتت بيوت، وتتهشم سيارات وتَنْفَق دواب، ويموت بشر! أما الغرق، فيأتى بفعل الفيضان والسيول التى يصنعها الإعصار، بما يمطره أفقيا، نعم أفقيا، بفعل الدوران!

إعصار «هايان» الفلبينى سحق، وأغرق مدنا وقرى، وقتل عدة آلاف من البشر، وشرد ملايين، وتسبب فى قطع الاتصالات عن مناطق واسعة مر بها، وقد شغل على مقياس «سيمبسون» لتحديد قوة وشدة تدمير الأعاصير الدرجة القصوى(5) إذ بلغت سرعة رياحه 379 كيلومترا فى الساعة، بينما الدرجة (1) على هذا المقياس لا تتجاوز 153 كيلومترا فى الساعة! فهو إعصار «سوبر» كما وصفه بعض خبراء الأعاصير، وهذا يجعلنى أضحك بإشفاق عندما أتذكر ما عرفته فى الطفولة من أشباه هذه الأعاصير القُمعية أو الحلزونية لدينا، والتى تنتسب إلى العواصف الترابية، ويسميها الهنود «الشياطين الترابية» والفرنسيون «الخرطوم الدوار» وسكان كاليفورنيا «بريمة الرمال»، بينما فى الصحراء الكبرى يسمونها «الجن الراقص»، وهى بأضعاف أضعاف حجم زوابعنا الضئيلة التى أُحوِّر اسمها تأدبا: «زعابيب العفريت»!

أمام شارعنا الذى كان آخر شارع عند طرف المنصورة الجنوبى الشرقى، كانت هناك مساحة شاسعة من الأرض الخلاء، وفى هذا الخلاء كانت الريح فى هياجها تُكوِّن زوابع حلزونية تدور بسرعة كبيرة كانسةً الأرض وشافطةً ما عليها من تراب وقصاصات ورق وريش طيور وقش، فكنا نتسابق لندخل فى قلب هذه الزوابع لندور معها، وننجرف، حالمين بأن ترفعنا دواماتها إلى سُحب كبساط الريح تحملنا، وتطوف بنا فنرى الدنيا من السماء! وبالطبع لم نكن نجنى من هذه الأحلام إلا الخروج من قلب الزعابيب على صورة عفاريت ترابية صغيرة، فننتبذ الأركان لننظف وجوهنا وعيوننا وآذاننا والأنوف من التراب حتى نعود إلى الحالة البشرية! أتذكر ذلك فأضحك. لكن ضحكى سرعان ما يعقُبه الأسى عندما أنتقل عبر عشرات السنين من لهو تراب الطفولة الساذج إلى جنون وتوحش حاضر التراب الردىء الهائج فى بلادنا الآن.

لقد انجاب إعصار الفلبين الأخير، واندفع متضرروه يعودون إلى أرضهم التى صارت هشيما، يبحثون فى أشلائها عن تذكاراتهم، ويقيمون من هذه الأشلاء أكواخا تؤويهم إلى حين ميسرة، نادرا ما تجىء، لكنهم يعودون، فالوطن عزيز وحبه فطرة، قلت ذلك مِرارا بما أعرف من سلوك الطيور والحيوانات والأسماك، بل حتى الحشرات، وها هم ضحايا إعصار هايان يؤكدونه. أما هنا والآن، فثمة زعابيب عفريت من رياح ترابية بشرية عيونها ضيقة أشد الضيق، تزوبع فى وادينا فتُعفِّر الدنيا وتُعتم الأفق، ومن المدهش أن صانعيها صنفان يبدوان متناقضين وإن كانا يتكاملان فى التدمير، هؤلاء الذين ينشرون الفوضى والدم والكراهية بتعصبهم لجماعات مجرمة السلوك مسمومة الأفكار ومعادية للوطنية التى هى فطرة، وأولئك الذين ينعقون فى الأبواق بخفة وجهالة وسوقية تدعى ذروة الوطنية، وتنتهج درب التحريض المجانى والانتقام والتشهير المُبتذل الذى لا يثمر إلا الابتذال! كلاهما زعابيب ترابية ضيقة العيون، تعكر صفو الوطن، ولا ترتفع بنا إلى أى سحاب! كفى.

SputnikNews