كتب : شيماء عادل وأحمد غنيم منذ 7 دقائق
جلست حول آنيتها النحاسية، بجوارها طفلتها، التى لم يتجاوز عمرها أصابع يديها، تفرك الملابس بين راحتيها، بينما تنشغل الصغيرة باللهو فى مياه الآنية، محاولة تقليد والدتها، يستمر لهوها ويستمر معها نهر والدتها التى تطلب منها الكف عن الفوضى، التى أحدثتها فى المكان، والتوجه إلى الحمام لغسل أيديها.
تستجيب الطفلة، صاحبة الأعوام السبعة، تمشى ببطء، تلتفت يميناً ويساراً، تقف أمام غرفة، فتجد فيها برطمانات زجاجية، تحتفظ بأشياء أشبه بالأمعاء، تحاول تجاهلها متجهة إلى الحمام لتغسل يديها بسرعة، حتى تعود إلى والدتها، لكن الباب الذى أغلقه تيار الهواء كان أسرع منها لتظل حبيسة تنطلق من حنجرتها الصغيرة صرخات استغاثة بوالدتها.
تجرى الأم نحوها تفتح الباب، تخرج الطفلة وتحاول تهدئتها، والانتهاء سريعاً من غسيل الملابس وأخذ حمام سريع ثم الاتجاه إلى مسكنها، حتى لا تتسبب فى وقوع مشكلة لحارس المشرحة، تشكره على ضيافتها وإكرامها، وتقول: «النبى صلى الله عليه وسلم وصى على سابع جار»، فما بالك بكونها الجارة الوحيدة التى يقابل باب غرفتها باب مشرحة زينهم.
تكبر الفتاة، التى تعتاد على المشرحة، ويتحول فزعها من رؤية الأحشاء المحفوظة فى البرطمانات الزجاجية إلى أمر عادى، تساعد والدتها فى غسيل الملابس، ثم نقل كميات كبيرة من المياه عبر الجرادل البلاستيكية إلى غرفتها لتنظيفها وإعداد الطعام، لتنهى يومها بالحمام اليومى داخل المشرحة، خاصة أن غرفتها الصغيرة لا تحتوى حماما.
«نحمدو» تسكن فى غرفة مقابلة لباب المشرحة وتستيقظ على مشاجرات أهالى الموتى على الميراث.. والإخوان عرضوا عليها الاعتصام فى «رابعة» مقابل 200 جنيه يومياً
مشاهد تتذكرها السيدة «نحمدو»، على الرغم من مرور 4 عقود عليها، وتقول: «وعيت على الدنيا لقيت نفسى ساكنة مع أمى، و3 أخوات فى غرفة صغيرة مسقوفة خشب من غير حمام، كل حاجتنا بنعملها فى المشرحة، بالليل نروح نستحمى فى الحمام، نغسل هدومنا فى الحمام، ظروفنا كانت صعبة خاصة بعد وفاة والدى، وتركنا عيال صغيرين، أمى رفضت تتجوز وربتنا وعلمتنا فى المدارس لحد الدبلوم».
40 عاماً أو ما يزيد هى الفترة التى قضتها «نحمدو» داخل غرفتها، لم تتركها سوى فترة قليلة، وقت زواجها الذى لم يستمر لتعود، وتجلس مع والدتها التى فارقتها الحياة، وتظل قابعة فى الغرفة بصحبة ابنة أخيها ياسمين، التى عكفت على تربيتها منذ نعومة أظافرها لتناديها ياسمين بعد ذلك بماما، رافضة الذهاب إلى والدتها.
الاستيقاظ على الصراخ، والمشاجرات بالنسبة لـ«نحمدو» أمر معتاد، تقول: «كل يوم خناقة، لدرجة أن الفاترينة الزجاج اللى التى اشتريتها لأضع فيها بعض البضائع أمام الغرفة اتكسرت أكثر من مرة، واحد ابن حلال مرة خبطها برجله، حوّشت 170 جنيه وركبت زجاج جديد راح واحد تانى وهو بيتخانق حدفها بزجاجة، ومن ساعتها وأنا مش معايا فلوس أصلحها وآدينى عايشة على الـ400 جنيه اللى باخدهم من شغلى فى كشك العيش، وأدينا مستورين، بصراحة ما ينفعش أطلب فلوس من واحد أمه أو أبوه ميتين فى المشرحة، بستعوض ربنا وأمرى لله».
وجود غرفتها مقابل باب المشرحة جعل السيدة تواكب كل ما يحدث فى البلاد، خاصة الأحداث التى تلت ثورة 25 يناير، قائلة: «مرت علينا أحداث كتير صعبة، الواحد مش عارف يفتكر فيها مين ولا مين، أول ما نصحى من النوم ونلاقى صوت عربيات الإسعاف واقفة قدام المشرحة نعرف إن فيه مصيبة فى البلد، فنفتح التليفزيون عشان نعرف إيه اللى بيحصل فى البلد».
مواقف كثيرة تتذكرها «نحمدو»، فيما يتعلق بالأحداث السياسية، وتقول: «فيه مواقف كتيرة الواحد بيشوفها مش كل واحد اتكتب اسمه على حيطة المشرحة بقى شهيد»، واستشهدت بتاجرة المخدرات التى توفى ابنها فى مشاجرة، وكتبت اسمه بجوار «جيكا، والجندى، وكريستى»، ليتقدم اسمه بلقب الشهيد، فى الوقت الذى رفض فيه والد أحد الشهداء أن يأخذ جثمان ولده فى جنازة رمزية فى ميدان التحرير، قائلاً لأصدقائه: «أنا استعوضت ربنا فيه وحابب أدفنه».
مشاهد الجثث بالنسبة لـ«نحمدو» أمر اعتادت عليه منذ نعومة أظافرها، فهى تربت وسط المشرحة وكونت صداقات مع كل العاملين بها منذ نعومة أظافرها، لكن أن تستيقظ من نومها فترى غرفتها غارقة فى الدماء، وعندما تفتح الباب تجد مئات الجثث مصفوفة بطول الشارع وعرضه، ولا تجد شيئاً تفعله هى وصغيرتها سوى أن تجفف الدماء بقطعة قماش قديمة، ومنه إلى جردل بلاستيك، فهذا هو المشهد الجديد الذى أضافته إلى مشاهد جثث قطار الصعيد، والعبّارة، والألتراس.
تقول «نحمدو»: «منظر الجثث والدم اللى غرق لنا الأوضة، مش قادرة أنساه، قعدنا كذا يوم مش عارفين نطلع من أوضتنا، الجثث فى كل مكان، الأعداد كبيرة والمشرحة مش قادرة تستوعب الأعداد، والناس كانت بتجيب تلج وتحطه على الجثث، والتلج كان بيسيح ومعاه الدم، والريحة كانت صعبة جداً، لدرجة أننا جبنا بخور ومعطرات ورشينا «ديتول» لكن من غير فايدة».
تصمت «نحمدو» لوهلة وتعاود حديثها: «قبل فض اعتصام رابعة العدوية، فيه ناس عرضوا عليّا أروح اعتصم معاهم فى رابعة وآخد 200 جنيه غير الأكل، بس أنا رفضت، لأنى مش بحب السُنية، تخيلى لو كنت وافقت ورحت كان زمانى واحدة من الجثث المرمية فى الشارع ومستنية دورى، وكنت ساعتها هسيب ياسمين لمين؟».
على الرغم من انتقادها لسياسة الإخوان كغيرها من أغلب أهالى المنطقة، الذين أعلن أغلبهم تأييدهم للفريق السيسى، من خلال الصور التى علقوها فى الشوارع التى تزينت بها الشرفات، فإن السيدة الأربعينية كان لها موقف مختلف: «أنا طول عمرى بكره السُنية والإخوان بيحرموا كل حاجة على الناس ويحللوها لنفسهم، أنا مرة زمان وقفنى واحد شيخ ساعة ظهور الموبايلات وقال لى الموبايل اللى أنت مسكاه دا حرام، أنا بصراحة رديت عليه قلت له بالنسبة للموبايل اللى فى إيدك دا ياشيخ إيه؟ قال لى أنا بسمع عليه قرآن، من وقتها وأنا مش بحبهم، بس الموت حاجة تانية خالص، ربنا يصبر كل واحد مات له حد، بالذات الشباب الصغيرة يقطّعوا القلب».
مواقف كثيرة جذبت تعاطف السيدة «نحمدو»، تارة وأثارت حفيظتها تارة أخرى، خلال وجودها وسط أهالى المتوفين من فض اعتصام رابعة، كان بينها صورة الفتاة الشابة التى سقطت منهارة عندما وجدت زوجها بين المجهولين، وهى تصرخ متسائلة: من سيعول صغارها بعد رحيل زوجها؟ ومشهد الأب الذى رأى وحيده جثة هامدة ولا يجد من سيقف إلى جواره ويرعاه، بينما وقفت مجموعة ممن سمتهم «المتاجرين»، يقتادون المراسلين الأجانب ووكالات الأنباء ويكشفون وجوه الجثث الملقاة على الأرض، وتصوير الوضع وكأننا فى سوريا، فى حين أنهم اعتدوا على مصور مصرى، وكسروا كاميرته ما جعلها تتدخل وتوجه سؤالها إلى الرجل الذى أخذ يهلل أمام كاميرات المراسيلن الأجانب بأن الجيش يقتل شعبه، «دفعوا لك كام؟»، ليرد عليها: «شكلك حافظة الدرس كويس».
تتعجب «نحمدو» من طريقة كلام الرجل الملتحى، وترى أنه كان من الواجب منع هذه الكاميرات الأجنبية من الدخول، لأن هذا الأمر يعد إهانة للدولة، وتصويرها على أننا سوريا أو عراق جديد، وأن الإخوان لا يريدون خيراً لهذا البلد، مرددة: «لو هما بجد عارفين قيمة الإعلام ونيتهم كويسة ليه سمحوا للأجنبى يصور وقعدوا يصرخوا ويعلوا صوتهم أول ما شافوا كاميرا الجزيرة ورفضوا يخلوا الصحفيين المصريين يصوروا وضربوهم؟».
لا تعلم «نحمدو» كيف تعايشت هى وصغيرتها «ياسمين» فى تلك الأيام، فـ«ياسمين» كانت خائفة طوال الوقت ولم تستطع النوم، بعدما رأت منظر الدماء يغرق غرفتها، ما جعل «نحمدو» تدير إذاعة القرآن الكريم باستمرار فى منزلها، أما الطعام والشراب فلم يدخل جوفهما إلا قليلاً، فرائحة الجثث هى المسيطرة على المكان، والذهاب إلى كشك العيش مصدر رزق نحمدو أصبح من المستحيلات، فالخروج من الغرفة معناه المرور على الجثث التى امتلأت بها الشوارع.
التزمت السيدة غرفتها وفضلت الجلوس بجوار «ياسمين» فالمكان ليس آمناً، خاصة بعدما جذبت إحدى السيدات الموجودات أمام المشرحة الستارة الموضوعة على الغرفة ووبخت «نحمدو» وصغيرتها، بعدما رأتهما يشاهدان «التلفاز»، صارخة: ««حسبى الله ونعم الوكيل انت بتسمعى الكدب دا؟» ما جعل «نحمدو» ترد عليها: «إنت بتتحسبنى على مين؟ وبتعملى هنا إيه؟ اتفضلى اطلعى برة».
تقول «نحمدو»: «بنحاول نقدر الناس، عارفين إن ظروفهم صعبة وأعصابهم مشدودة، ووقفنا جنبهم، الناس بتاعة المدبح اتبرعوا بعربية تلج كبيرة، والراجل الغلبان بتاع عربية الكشرى نزل اشترى عصير ووزعه على الأهالى، وشباب المنطقة جابوا مساحات ونزحوا دم الجثث، وناس تانية اتبرعت بأكفان كتير، وفى الآخر تلاقيهم بيحسبنوا عليكى من غير ذنب».
«فتحية»: لما بنسمع صوت عربيات الإسعاف بنعرف إن فيه مصيبة حصلت فى البلد.. ومن أيام الثورة والمشرحة مش بتبطل شغل
ترك «الغرفة» والانتقال من محيط المشرحة حلم ما زال يراود «نحمدو»، خاصة بعد قيام ثورة 25 يناير: «سمعنا كتير عن العيش والعدالة الاجتماعية ومن وقتها أنا وأخويا نفسنا فى العدالة دى، يعنى إيه أخويا يروح ياخد معاشه 300 جنيه، وواحد جنبه بيقبض 3 آلاف جنيه، كل حلم أخويا إن يحس بالعدالة دى، نفسه مرتبه يوصل حتى لـ800 جنيه، عشان يعرف يصرف على ولاده التلاتة، تعرفى إن فيه واحدة جوزها شغال فى الحى ساكنة قريب من مكان كشك العيش اللى بشتغل فيه، كل يوم تلاقيها رامية علب لبن وزبادو مقفولة، عشان تاريخ صلاحيتها عدى بيوم، لقيت واحدة عاملة نضافة فاتحة علبة زبادو وبتشرب منها عادى ومحصلهاش حاجة شجعتنى أفتح علبة زيها وأشربها، طب الزبادو واللبن مدة صلاحيتهم انتهت، طب بالنسبة للكباب والكفتة المرميين فى الزبالة، وبعد كده نقول عدالة اجتماعية ليه؟ حق الغلبان يسرق عشان يعرف يأكل ولاده».
لم يكن ترك «الغرفة» هو الحلم الوحيد لـ«نحمدو» لترتاح من مشكلات المشرحة، فاستكمال ياسمين لدراستها هو الحلم الأهم بالنسبة لها، لتقاطعها «ياسمين» قائلة: «ما تخافيش أنا هكمل تعليمى وهكون ممرضة عشان أنا بحب الأطفال، بس أنا السنة دى هاخدها منازل عشان أقدر أشتغل ورديتين فى اليوم، ونقدر نبيض الأوضة ونركب سيراميك ونجيب باب جديد بدل الخشب».
على بعد أمتار قليلة من بيت «نحمدو» جلست الحاجة «فتحية»، صاحبة السبعين ربيعاً، ممدة قدميها أمامها، وعلى رجليها تحتضن حبات الثوم، لكى تعاون زوجة ابنها فى إعداد الطعام، تتابع ما يدور على التلفاز، فترى مشاهد للدمار الذى لحق بالمنازل، والمحال التجارية نتيجة الانفجار الذى وقع فى مدينة نصر واستهدف وزير الداخلية ولسانها يردد: «حسبى الله ونعم الوكيل».
تعتدل فى جلستها قائلة: «النهاردة جالنا واحد متوفى من حادث الانفجار، ومن ساعة الثورة والمشرحة مش بتبطل شغل، خناقات وناس بتموت، كان آخرهم الناس بتوع رابعة، وفيه صحفية زميلتك طلعت صورت عندنا بعد ما الإخوان ضربوها، وسحلوها وخلعوا لها الحجاب خدى بالك من نفسك يا بنتى، الصحافة مهنة خطر».
تقول «السيدة»: «زمان كانت المشرحة صغيرة وكان لينا وكالة ملك بتبيع لبن أخدتها الدولة وضمتها للمشرحة، عشان مساحتها تكبر، مرت علينا حوادث ياما تقطّع القلب، ساعة العبّارة كان فيه جثث السمك واكلها وأهلها مكانوش عارفين يتعرفوا عليها، حاجة تقطّع القلب، أما ساعة قطر الصعيد اللى اتحرق فى العيد كانوا ولادى دابحين، وفوجئنا بالقطر، مبقناش عارفين نعمل إيه، عملنا شادر كبير وجبنا طباخين وطبخنا لأهالى المتوفين أكل، عشان ياكلوا، لحد ما يعرفوا هيعملوا إيه مع ولادهم».
السكن بجوار المشرحة أمر تراه السيدة السبعينية مرهقا نفسياً، فيكفى استيقاظهم يومياً على «الصراخ» الذى لم ينقطع يوما منذ قيام الثورة.
صوت سيارات الإسعاف ليس صوتاً عادياً بالنسبة للحاجة «فتحية»، فمعناه وجود كارثة فى البلد: «ساعة الألتراس كان فيه أوتوبيس كبير، وأغلب الحالات كان عندها نزيف داخلى، كلهم شباب صغير مالهمش ذنب، الواحد تعب، ونفسه يسيب المنطقة، بس مش قادرة، كل أملاكنا هنا، عندنا فرن وقهوة وبيوت منقدرش نسيب كل دا ونمشى».
أمر آخر تراه «الحاجة» سبباً فى بقائها وهو «جدعنة أهالى زينهم»، ما أثبتته الأيام القليلة الماضية، مستشهدة بفض اعتصام رابعة ووجود مئات الجثث الملقاة فى الشارع وكيف تقبل الأهالى هذا الوضع ووقفوا بجوار الإخوان، متناسين الخلافات السياسية وأنهم جميعاً مصريون مرددة: «معندناش حد إخوان فى المنطقة وأغلب الناس فوضت السيسى لأنهم كانوا ضد سياسة الإخوان بس ساعة الأزمة كلنا وقفنا مع بعض وفتحنا بيوتنا للناس، اللى يدخل الحمام واللى يتوضى واللى يصلى، عشنا أيام صعبة فوق الـ10 أيام وعلى الرغم إن التلاجات اللى جات أنقذتنا شوية، بس فيه جثث كانت جاية من الاعتصام متحللة، أول ما دخلت المنطقة الريحة كانت صعبة، خلصنا كراتين معطرات وديتول من غير فايدة، اللقمة مكناش عارفين ناكلها، دا غير الخناقات اللى كانت كل شوية تحصل فى المكان، ما أقدرش أسيب ناس جميلة وحنينة حتى مع الناس اللى ضدها، المكان هنا مسقط رأسى ورأس ولادى وأكل عيشنا كله هنا».
محمد عادل، شاب يبلغ من العمر 15 سنة، وواحد من بين العشرات الذين تطوعوا لتنظيف محيط المشرحة، وإمداد أهالى المتوفين بالمياه والعصائر، والأغذية والأكفان، لم يفكر فى ترك منزله رغم الضغوط النفسية التى يتعرض لها بشكل دورى، خاصة بعد ثورة 25 يناير مرددا: «ما ينفعش أسيب منطقتى، أنا اتولدت لقيت جدودى مولودين فى المكان أسيبها وأروح فين؟».
يصمت قليلاً ثم يعاود حديثه بشكل حازم، وكأنه يحاول إيصال رسالة معينة: «إحنا واخدين على المشرحة، صحيح كنا بنخاف لما يكون فيه جثة فى المشرحة ومكناش بننزل من البيت، لكن بعد الثورة ما بقناش نخاف، الموضوع بالنسبة لنا أصبح عادى من كتر الجثث اللى بتيجى على المشرحة».
«عادل» ما زال يتذكر سيارة الرسعاف التى أوقفته هو ورفاقه أثناء مشاركتهم فى الدورة الرمضانية لمنطقتهم، حيث توقف اللعب لحين دخلت السيارة وأنزلت جثمانا لإلحاقه بالمشرحة لينتهى اليوم بوصول الجثمان وتوجه كل فرد إلى منزله.
عشق كرة القدم لم يقتصر فقط على الدورة الرمضانية، فـعادل من مشجعى النادى الأهلى، الذى لم يتخيل يوماً أن يرى شبابا فى مثل سنه أو أقل من مشجعى فريقه المفضل أن يأتوا جثثا هامدة، عبر أتوبيس يتوقف على بعد خطوات قليلة من منزله، ليتم استقبالهم فى المشرحة قائلا: «الوضع كان صعب وماكنش حد يتخيل إنه تحصل مجزرة لشباب بيشجعوا فريقهم، أول مرة أشوف أتوبيس جايب جثث مش جايب ناس».
لم يكن مشهد الأتوبيس الذى أقل جثامين الألتراس وحده الأكثر تأثيراُ على «عادل»، فمقتل الشاب «جيكا» على أيدى الداخلية فى «محمد محمود»، أثناء اعتراضه على الإعلان الدستورى، الذى أقره محمد مرسى الرئيس المخلوع، ومنح نفسه صلاحيات كاملة، ما زال تأثيره محفوراُ فى قلب وعقل عادل، لا يعلم السبب فى ارتباطه بـ«جيكا» رغم أنه لا يعرفه، فربما يكون تقارب السن بينهما سبباً قوياً، فضلاً عن تقارب البيئة التى تربيا فيها فى منطقة السيدة زينب «ليست بعيدة عن عابدين» مردداُ: «نفسى أعرف مين اللى قتله واقتص منه».
«مفيش حد هنا إخوان غير اتنين أو تلاتة»، هكذا ردد «عادل» عبارته بفخر، يعقبها بأن أغلب أهالى المنطقة مع الفريق السيسى، مضيفاً: «الإخوان قعدوا يهتفوا ضد السيسى ويقولوا إنه السبب فى قتل ولادنا، بس أهالى المنطقة وقفوا قصادهم، وقالوا لهم ياريت تقعدوا ساكتين إنتوا جايين تاخدوا جثث ولادكم مش جايين تعملوا مظاهرات، فيه ناس حبت تعمل مشكلات معانا بس إحنا استحملناهم، لأن الموت والدم حاجة صعبة الله يكون فى عونهم».
«عادل» ما زال يتذكر مشاهد الجثث المجهولة التى أودعوها فى الثلاجات، حيث كان يقف على إحداها حال وفود الأهالى للتعرف عليهم، قائلاً: «كنا بنفتح التلاجات للناس عشان تتعرف على المجهولين وكنا بنوزع الديتول، والبخور، ونسحب المياه المختلطة بالدماء عشان نظافة المكان ونقلل من ريحة الدم»، استطرد الشاب كلامه وكأنه يريد أن يثبت شيئاً: «معظم الجثث ماكنش ليها ريحة لحد ما جات مجموعة من الجثث ريحتها صعبة جداً، لدرجة إن ماكنش فيه حد عارف يقعد فى المكان وما نفعش معها ديتول ولا بخور، الجثث خلاص كانت اتحللت وهو ما يثبت أن هناك جثثاُ سقطت قبل فض الاعتصام».
الجثث المتناثرة، وبقايا الثلج، والماء لمحاولة إنقاذ الجثامين من التعفن، هو المشهد الذى ما زال محفوراً فى ذاكرة أطفال شارع المشرحة، من أحداث فض اعتصامى رابعة العدوية، والنهضة، فعلى الرغم من أن طموحهم الأكبر ما زال الحصول على القدر الكافى من «اللعب واللهو اليومى»، فإن الكوابيس أيضاً باتت جزءا من حياتهم.
«كرم عادل» واحد من أطفال المنطقة، الذين عانوا من المشرحة والأحداث المرتبطة بها، قال: «كنت أقوم الصبح على صوت الصريخ والعياط، وأفتح الشباك ألاقى الجثث تحت العمارة، منظر إنك تشوف جثة قدام بيتك منظر صعب، تخيل أول حاجة تشوفها أول ما تفتح عينيك جثث مرصوصة جنب بعضها».
يستعيد الطفل صاحب الـ 13 ربيعاً ذاكرته: «فيه جثث كتير كانت محروقة كنا فاكرنها فى الأول كيس أسود، الوضع كان صعب وعلى الرغم إن الأهالى كانوا ضد الإخوان وقفوا جنبهم وساعدوهم من منطلق إكرام الميت دفنه».
«محمد»: أكثر مشهد أثر فىَّ أتوبيس مشجعى الأهلى واستشهاد «جيكا».. والإخوان حاولوا يعملوا مشكلات مع الأهالى لما عرفوا إنهم مؤيدين لـ«السيسى»
يستمر الطفل والكلام على لسانه: «وعلى الرغم من إن كل محاولات استمالة أهالى المنطقة بالتعاطف مع أوضاعهم وأنهم تعرضوا لمجزرة خلال فض الاعتصامات لكن الأهالى كانت ترد عليهم بعدم الحديث فى السياسة وأنهم موجودون فى المنطقة من أجل جثث أولادهم»، مردداً بحكمة فوق سنوات عمره الـ13: «الناس مكانتش فاهمة إن المنطقة كلها مع السيسى، لو كانوا بصوا على البلكونات كانوا شافوا الصور، وعرفوا إننا واقفين جنبهم عشان خاطر الموت وبس».