أكد الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف، أنه لن نستطيع أن نقضي على التشدد ونقتلعه من جذوره، ما لم نواجه التسيب والانحراف القيمي والإلحاد الموجه والممول، وموجات التجريف الأخلاقي بنفس القوة والحماس، مشيرا إلى أن التطرف إلى أقصى اليسار كالتطرف إلى أقصى اليمين، كلاهما مذموم، سواءً بسواءٍ، كما أن التيارات اليسارية الأكثر تطرفًا في نفس خطورة التيارات اليمينية الأكثر تطرفًا، ونحن في تعاملاتنا مع الناس نحتاج إلى التوازن في المعاملة، فبعض الناس يذهب إلى أقصى الطرف إفراطًا، والبعض الآخر يذهب إلى أقصى الطرف تفريطًا وكلاهما غير محمود على أية حال، وهذا يعني أن ما نستفيده من المؤتمرات والندوات المنعقدة هو الالتزام بالوسطية، وأن نجعلها منهج حياة، وهذا يتطلب أن نعمل وبقوة على إحلال مناهج الفهم والتحليل محل مناهج الحفظ والتلقين.
جاء ذلك خلال مشاركته في أولى جلسات الصالون الثقافي لكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، اليوم السبت، بعنوان: (حوار التراث والحداثة في الأدب في ضوء كتاب: «مسيرة النقد الأدبي وقضاياه»)، بدعوة من الدكتور غانم السعيد غانم عميد كلية اللغة العربية جامعة الأزهر بالقاهرة، وبحضور الدكتور يوسف عامر نائب رئيس جامعة الأزهر السابق ورئيس لجنة الشؤون الدينية والأوقاف بمجلس الشيوخ، والدكتور صلاح الدين عاشور، وكيل كلية اللغة العربية لشئون التعليم والطلاب، وعدد من أعضاء هيئة التدريس والهيئة المعاونة، وعدد من الباحثين.
وأكد وزير الأوقاف أن الأصل في الأستاذ الجامعي أن يكون أستاذًا متمكنًا من مادته العلمية مهما ارتقى في مناصب إدارية أو تنفيذية، وأن الأصل في قيادات الأوقاف أن يكون عالمًا وخطيبًا مفوهًا متميزًا، مشيرًا إلى أنه لا توجد الآن بوزارة الأوقاف أي ترقيات إدارية أو علمية إلا بامتحانات حتى درجة وكيل الوزارة وحتى درجة رئيس قطاع، وذلك لتحقيق التوازن بين الجانب الإداري والجانب العلمي.
كما أشاد باختيار موضوع الصالون «حوار التراث والحداثة»، فنحن نرسخ المناهج الفكرية، ونحن كأزهريين جميعًا علينا أن نهتم بالمنهج الوسطي في جميع قضايانا حتى في حياتنا الشخصية لتصير أمرًا لازمًا لنا، وقد قال الإمام الأوزاعي (رحمه الله): «ما أمر الله (عز وجل) في الإسلام بأمر إلا حاول الشيطان أن يأتيك من إحدى جهتين لا يبالي أيهما أصح، من جهة الإفراط، أو التفريط، من جهة الغلو، أو التقصير» .
وعن قضية الثقافة، أكد وزير الأوقاف أن قضية الثقافة، قضية تراكمية أشبه ما تكون بحال الإنسان والنبات، فكلّ منهما ينمو نموًّا قد لا يُرى ولا يُلحظ بالعين المجردة، لكنه يظلّ مستمرًّا ومطَّردًا حتى يستوي الطفل رجلًا، وينتج النبات ثمرًا يانعًا.
وكما لا يستطيع الإنسان أن ينكر مراحل طفولته، وأنها أحد أهم مراحل حياته التي ينعكس أثرها على كل ما يليها من مراحل الحياة، فإن أحدًا لا يستطيع أن يُنكر أثر الجذور والمنطلقات المؤسِّسة لكل علمٍ، ولا سيما في مجال العلوم والفنون والآداب.
والعلاقة بين التراث والمعاصرة في الفكر النقدي- شأن كثير من المتقابلات- ليست علاقة عداء أو قطيعة، ولن تكون، ولا ينبغي أن تكون، وإن الوسطية التي نحملها منهجًا ثابتًا في كل مناحي حياتنا، ونجعل منها ميزانًا دقيقًا نزن بها أمورنا كلها، إنما هي منهج ثابت ننطلق منه في كل جوانب حياتنا العلمية والفكرية والفلسفية والتطبيقية، لا نحيد عن هذا المنهج قيد أنملة، فقد قالوا: لكل شيء طرفان ووسط، فإن أنت أمسكت بأحد الطرفين مَالَ الآخر واختل توازنه، وإن أنت أمسكت بالوسط استقام لك الطرفان، ونحن مستمسكون بهذا الوسط وتلك الوسطية، لا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تقصير.
وأضاف: فنحن لا نتعصب للقديم لمجرد قدمه، ولا نسلم زمام عقلنا للتقليد الأعمى دون أن نمعن النظر فيما ينقل إلينا أو يلقى علينا، فقد ميز الله (عز وجل) الإنسان عن سائر الخلق بالعقل والفكر والتأمل والتدبر والتمييز، ونعى على من أهملوا هذه النعم ولم يوفوها حقها، فقال (سبحانه): «أَفَلَا يَعْقِلُونَ»، وقال تعالى: «أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ»، ويقول (سبحانه): «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى»، ويقول (عز وجل): «وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ»، ولما نزل قوله تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ» قال نبينا (صلى الله عليه وسلم): «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها».
وأشار إلى أنه لا يمكن أيضًا أن ننسلخ من هذا التراث العريق أو نقف منه موقف القطيعة، ونعمل في الهواء الطلق، فمن لا ماضي له لا حاضر له ولا مستقبل، بل علينا أن نأخذ من الماضي العريق النافع والمفيد الذي ننطلق به في الحاضر ونؤسس به للمستقبل.
وأكد أن في تراثنا النقدي من الفكر والثراء والتنوع ما يحتم علينا إعادة قراءة هذا التراث قراءة جديدة عصرية يمكن أن تشكل أساسًا قويًّا ومتينًا لبناء نظرية عربية في النقد الأدبي، لا تنفصل عن تاريخها ولا عن هويتها ولا عن واقعها، بل يمكن أن تكون حال نضجها أحد أهم ملامح هويتنا الواقية وخصوصيتنا الثقافية في زمن العولمة والتيارات النقدية والفكرية والثقافية الجارفة.