كشفت الدكتورة نوف الغامدي، مستشارة تنمية اقتصادية، عن أن الأزمة الحالية ستبين أنه لا بد من ضوابط جديدة لرفع مستوى الأداء والقدرة على الوفاء بالالتزامات المستقبلية لكل من مؤسسة التأمينات الاجتماعية، والمؤسسة العامة للتقاعد خاصة؛ لكيلا تتحول تلك الالتزامات إلى ضغوط مستقبلية أخرى على موارد وزارة المالية. مؤكدة لـ"سبق" أن وزارة المالية تعد فعليًّا الضامن الأخير لالتزامات كل من المؤسستَيْن.
وقالت إنه "لا شك أن التنظيم الجديد برفع مستوى الإشراف على هذا القطاع المهم ليكون مرتبطًا بوزارة المالية يُعد خطوة مهمة لتحقيق المطلوب". مضيفة بأن "مؤسسات حكومية أخرى تحتاج إلى درجة أعلى من الإشراف، وفي التقاعد بالذات كان بالإمكان دعم الاحتياطات المالية لهذا القطاع المهم خلال أيام الطفرة المالية لمقابلة الالتزامات المستقبلية الكبيرة، ولم يحدث ذلك".
وأردفت: "بل إن كثيرًا من مستحقات التقاعد لدى وزارة المالية لم يتم دفعها وقت الطفرة المالية الكبيرة، على الرغم من الهدر المالي الكبير خلال تلك الفترة، وتم ترتيب دفع كثير منها فقط في الأعوام القليلة الماضية. ولا بد أيضًا من التشديد على أن هذا القطاع المهم بأجهزته الاستثمارية الكبيرة يعد خطًّا دفاعيًّا آخر بعد مؤسسة النقد لدعم مالية الدولة وقت الأزمات كممول استثماري ورافد لاحتياجات الدولة من العملة الصعبة".
وأشارت الغامدي إلى أن الأزمة الحالية أوضحت جوانب القصور في نظام المناقصات الحكومية، وأن هذا النظام، خاصة في الجوانب التطبيقية، في حاجة ماسة إلى التطوير والإصلاح؛ إذ بقي هذا النظام جامدًا لعقود من الزمن، وكانت الفرص الضائعة والتكلفة الأكبر قد حدثت خلال الطفرة المالية التي مرت على السعودية؛ إذ لم يستفد كثير من المواطنين من فرص التدريب والتوظيف في المشاريع الضخمة التي صُرفت عليها مئات المليارات.
ولفتت إلى أنه "في أزمة كوفيد-19 الحالية تبيَّن جانب آخر من المخاطر المتعلقة بالأعداد الهائلة من العمالة الأجنبية، التي لم يكن من ضمن شروط المناقصات الحكومية ومشاريع القطاع الخاص المختلفة ضوابط قوية بمتطلبات بيئة العمل والسكن لها، التي تحقق المعايير الصحية المطلوبة، وجودة الحياة. ولا شك أن جهود الدولة في الأعوام الأخيرة عدلت من الوضع كثيرًا من خلال برامج الرؤية، إلا أن الأزمة الحالية قد تساعد على تسريع وتقنين نواحي التطبيق الصحيح".
وأصبحت "الغامدي" أنه "أصبح واضحًا في هذه الأزمة أن تكلفة التوظيف الحكومي في تزايد، وقد تتعدى إمكانات وزارة المالية في ضبط التوازن بين الصرف على المرتبات والصرف على المشاريع الإنتاجية ومشاريع البنية التحتية، وغيرها من احتياجات الدولة، وأنه لا بد من زيادة فرص التوظيف للسعوديين في القطاع الخاص".
وبيّنت أنه لتحقيق ذلك لا يمكن الاعتماد فقط على قوانين التوطين التي أدت في كثير من الأحيان إلى زيادة كبيرة في التوظيف الوهمي، ولا بد من حلول جديدة مبنية على زيادة في النمو الاقتصادي، وتوسع في جذب الاستثمارات وفك الاحتكار لتوظيف وتدريب أعداد أكبر من السعوديين على العمل في وظائف حقيقية، وبرواتب مجزية.
وقالت "الغامدي": لا بد من التفكير بطرق أكثر انفتاحًا، وليس فقط من خلال القوانين والأنظمة الحالية المتعلقة بتوطين الوظائف. ومن الحلول الممكنة بيئة أقوى لريادة الأعمال، ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة من خلال تفعيل البرامج المختصة في دعم المشاريع، التي لا يزال بعضها في طور الدراسة والتنفيذ؛ إذ إن الأزمة الحالية تتطلب تسريع إنجاز هذه المبادرات الحكومية المهمة.
وتابعت: أزمة كوفيد-19، وتكاليف بنود التوظيف لدى وزارة المالية، بيّنت أهمية رفع كفاءة أبناء وبنات هذا الوطن؛ ليكون مجال التوظيف للسعوديين أكثر سعة وتنوعًا في القطاع الخاص وريادة الأعمال، بدلاً من تراكم الأعداد في الوظائف الحكومية بما قد لا يمكن استيعابه.
وتابعت: لذا لأهمية التوسع في البرامج النوعية للابتعاث، وزيادة عدد المبتعثين التي تعد تكاليفها على خزانة الدولة أقل بكثير من تكلفة البطالة أو تكلفة التوظيف الحكومي الذي بلغ ذروته، يمكن التوسع في البرامج النوعية للابتعاث من خلال زيادة عدد المبتعثين الملتحقين، وزيادة عدد الجامعات المدرجة في البرنامج من 20 جامعة فقط حول العالم إلى ما لا يقل عن 70 أو 80 جامعة لزيادة القدرة الاستيعابية للبرنامج دون تقليل من مستوى الجامعات المختارة.
وأوضحت أنه من الأهمية القصوى أن يكون من ضمن برنامج الابتعاث الجديد التدريب على رأس العمل لمدة عام أو عامين على الأقل لدى مختلف الشركات في دول الابتعاث قبل رجوع المبتعث للعمل في السعودية. والدولة بمختلف أجهزتها التنفيذية، خاصة صندوق الاستثمارات العامة ومؤسسة النقد وشركة أرامكو السعودية، إضافة إلى وزارتي الدفاع والحرس الوطني، لديها من المشاريع والعلاقات الوثيقة مع عدد كبير من الشركات في أنحاء العالم بما يجعل تلك الأجهزة الحكومية المهمة قادرة على المساعدة بشكل فاعل نحو ترتيب برامج تدريبية على رأس العمل لخريجي برنامج الابتعاث الجديد.
وقالت: يرى البعض أن وزارة المالية أخذت اتجاهًا معاكسًا لما كان متوقعًا في دعم الاقتصاد المحلي من خلال زيادة الإنفاق الحكومي مثلما عملت دول أخرى، وليس شدًّا للحزام وزيادة في ضريبة القيمة المضافة. ولا شك أن في تلك التعليقات خلطًا للأوراق والمفاهيم الاقتصادية.
وأردفت: بداية، فإن المقارنة الصحيحة بين السعودية والدول الأخرى، بما فيها الدول الأكثر تطورًا في العالم، خلال هذه الأزمة تكون في الإجراءات التي اتخذتها الدولة في دعم القطاع الصحي لحماية المواطنين والمقيمين، وفي التسهيلات والدعم المالي الذي قامت به الدولة لحماية وظائف المواطنين في القطاعَين الخاص والعام.
وأشارت إلى أنه بذلك المقياس فقد سجلت السعودية نجاحات كبيرة ومتميزة في مواجهة هذه الجائحة، وبدا واضحًا للجميع مدى التجاوب والتفاعل والتنسيق الكبير بين الجهات الحكومية المختصة بشكل ربما لم يحصل مثله في سابق الأزمات التي مرت على السعودية. وفيما يتعلق بالسياسات المالية والنقدية التي قامت بها الدولة على مستوى الاقتصاد الكلي فإن المقارنة بالدول الأخرى، خاصة الدول الصناعية، تُعد أمرًا غير صحيح لاختلاف طبيعة الاقتصاد والإمكانات المالية.
وبيّنت أن السعودية تقارَن بالدول التي تعتمد على السلع والموارد الطبيعية، وبهذا المقياس تعد السعودية ودول الخليج بشكل عام الأكثر نجاحًا وازدهارًا بمستويات عالية من الرفاهية لشعوبها. يعني ذلك أن المساحة المالية Fiscal Space التي يمكن أن تتحرك فيها دول الموارد الطبيعية أقل مرونة من الدول الصناعية متنوعة الإيرادات.
وتابعت: تعتمد دول الموارد الطبيعية إلى حد كبير على ما لديها من احتياطات مالية؛ ولهذا فإن التوسع في الإنفاق الحكومي والاستهلاك المحلي دون مراعاة لهذا الجانب المهم يمكن أن ينتج عنه إرباك لمستوى الاستقرار المالي، بما قد يضر بالمصلحة العامة للوطن والمواطن.
وقالت: ومن هنا تأتي القرارات الاحترازية الأخيرة لوزارة المالية متوافقة مع طبيعة الاقتصاد السعودي، وأهمية المحافظة على احتياطات النقد الأجنبي التي تعد الحجر الأساس في مالية الدولة والاستقرار المالي في السعودية. وبالنسبة للمواطن الأهمية تكمن في المحافظة على القوة الشرائية الحقيقية الناتجة من ثبات واستقرار سعر صرف الريال الذي يعادل في قوته الشرائية الدولار الأمريكي (أقوى العملات العالمية).
ونتيجة لثبات وقوة سعر صرف الريال ترى "الغامدي" توافر مختلف أنواع السلع في الأسواق في السعودية بأسعار تنافسية، لا تختلف عن مثيلاتها في أفضل دول العالم. وهذا أهم مقياس حقيقي لمستوى الرفاهية والقوة الشرائية للمواطن في أي دولة.
وقالت: لو افترضنا أن وزارة المالية انتهجت العكس، أي التوسع في الإنفاق الحكومي، ولم تأخذ بالإجراءات الاحترازية المطلوبة، فالنتيجة ستكون إضعاف المالية العامة للدولة واحتياطات النقد الأجنبي؛ وهو ما قد ينتج منه أضرار بالاقتصاد الكلي على المديَيْن المتوسط والبعيد، وبالقدرة الشرائية للمواطن السعودي التي تفوق بكثير الزيادة الأخيرة في نسبة الضريبة المضافة.
وأكدت أن الاستهلاك يعد مكونًا رئيسيًّا للناتج المحلي الإجمالي الذي يتكون من: الإنفاق الحكومي، الاستثمار، (الصادرات– الواردات) والاستهلاك الذي يعد أكبر جزء بنسبة من 60–80 %؛ وبالتالي فإن زيادة الضرائب قد تخفف المقدرة الاستهلاكية؛ وبالتالي فهي تقلل حجم الاستهلاك في الاقتصاد الكلي. إن تأثير الضرائب على الاستهلاك يتناسب عكسيًّا مع حجم الدخل، أي إنه كلما كان حجم الدخل كبيرًا كان أثر زيادة الضريبة قليلاً على الاستهلاك.
وأوضحت أنه بشكل عام تعمل الضرائب على تحقيق الاستقرار الاقتصادي من خلال معالجة حالة الكساد، أو معالجة حالة التضخم. في حالة التضخم تعمل الضرائب على امتصاص القوة الشرائية الزائدة، أي العمل على خفض الطلب الكلي، ولا يتم ذلك إلا من خلال زيادة الضرائب الحالية، أو فرض ضرائب جديدة. وهذا صحي نظريًّا خلال فترة الإصلاح الاقتصادي التي تحاكيها رؤية السعودية 2030 قبل الأثر الاقتصادي لـ كوفيد-19. أما في حالة الكساد فيتم خفض الضرائب بهدف رفع الطلب الكلي لزيادة وخلق قوة شرائية. وبالنسبة لجذب الاستثمار فإن الضرائب هي من أهم المؤشرات الاقتصادية التي يدرسها المستثمرون قبل اتخاذ قرار بدخول سوق معين.
وخلصت إلى القول بأن "مختلف أجهزة الدولة قامت بما يجب عمله، وتستحق الإشادة بجهودها المتميزة في مواجهة أزمة كوفيد-19. وفيما يتعلق بالسياسات المالية والاقتصاد الكلي للمملكة فإن الدولة قامت من خلال وزارة المالية بما يمكن عمله للمحافظة على الاستقرار المالي للمملكة على المديَيْن المتوسط والبعيد، وهذا ما تقتضيه الحصافة المالية أخذًا في الحسبان الإمكانات المتوافرة.