أرجو أن أجد بينكم- أعزائى القراء- من يعيننى على توصيل وتأكيد حقيقة أن باب التوبة لا يغلق إلا مع مفارقة الروح للجسد، وأن انقضاء الساعات المتبقية من شهر رمضان المعظم لا يعنى أبدًا أن أبواب السماء توصد فى وجه التائبين.
أقول هذا لإفشال الدعوة الشيطانية التى تفتح أبواب المعاصى والذنوب اعتبارًا من ليلة العيد. «هارد لك يا بطل؛ إن أردت التوبة وتكفير ذنوبك فعليك بالانتظار إلى رمضان القادم إن شاء الله! أما الآن، فَعِشْ حياتك كما تشاء، ودعك من عكننة الحلال والحرام»!
قول خبيث يراد به نشر الفساد بجميع أشكاله المعروفة، والتى يمكن ابتكارها والانغماس فيها أكثر وأكثر ممن سبقونا. يقول لك وكلاء الشيطان: ضاعت الفرصة! نفس المنهج يتبع فى إحباط التلاميذ والطلاب بالمقولة الشهيرة: «اللى ذاكر ذاكر»، والمعنى لا يحتاج إلى تفسير!!
وبكل أسف امتدت هذه النظرية المُعَفْرَتَة إلى عالم السياسة، فأصبحنا نسمع كثيرًا عبارات: الفرصة الأخيرة، وآخر محاولة، والطريق المسدود، وغيرها العديد مما يتنافى مع الفكرة الأساسية للسياسة، ويتعارض مع أبسط تعريفاتها المتفق عليها، والتى تطرحها على أنها فن الممكن.. أما «مش ممكن»، و«مستحيل»، و«مفيش فايدة»... فكلها يجب أن تغادر القاموس السياسى.
لقد صدق المناضل الهمام مصطفى كامل حين قال: «لا معنى لليأس مع الحياة، ولا معنى للحياة مع اليأس»، وهى أيضًا- وفقًا لصياغات هذا الزمان المسطحة: لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس!!
أم أنكم لستم ساسة؟ كيف تتصدون لمصائرنا وأدق شؤوننا وأنتم على هذه الدرجات من العناد: هذا يقول: على جثتى. والثانى يقول: لا تراجع ولا استسلام. والثالث: لا عودة عما قلته. والرابع: لا تفاوض! والخامس: لا مؤاخذة!
ما هذا يا سادة؟ لقد اختلفتم على كل شىء، ولكنكم اتفقتم على شىء واحد، ألا وهو ترك السياسة وقواعدها ووسائلها ومهاراتها وقدراتها، والتحول إلى عالم التحديات المادية القائمة على استعراض العضلات على اختلاف أنواعها.
سألت نفسى كثيرًا: أهم حقًّا ساسة؟ وتذكرت أنهم هم أنفسهم يتنكرون لهذه الصفة، وكأنها وصمة عار؛ تجد واحدًا على رأس المسؤولية فى أحد المواقع الحيوية يقول- بكل فخر: إنه ليس سياسيًّا، وإنما تكنوقراط! تدرك فورًا أنه بالفعل ليس سياسيًّا، وليس صاحب فكر على الإطلاق، وإلا لاستوعب بسهولة أن المرء يمكن أن يكون سياسيًّا وخبيرًا متخصصًا فى مجال ما من مجالات النشاط الإنسانى، كالزراعة أو الصناعة أو التعليم أو الإسكان!
مازلنا ندفع ثمن غياب السياسيين وإبعادهم عن ممارسة السياسة منذ حل الأحزاب فى 1954، لتعيش مصر بعدها نظريات الحزب الواحد التى ترسخ للديكتاتورية، وتحميها، وتتفنن فى تبرير أخطائها الكارثية... لهذا أضم صوتى للمنادين بتمكين الشباب ودمجهم فى العمل السياسى إذا كنا نسعى بالفعل لتأسيس دولة ديمقراطية معاصرة.. دولة يقرر فيها الشعب شؤونه بعيدًا عن الممارسات الاستثنائية والقرارات الأبوية الفوقية.
ليتنا نُنَقّى العمل السياسى من جميع المظاهر السلبية كالعناد، وإعلان الشروط المسبقة للتفاوض، والانسحاب المباغت الذى أشهد أنه استُخدِم أمامى كثيرًا بعد ثورة يناير، لقلب الحقائق وإيهام المتابعين أن أحد الأطراف يجور على الآخر، ويكون المظلوم بالطبع هو المنسحب المسكين الذى يجيد تطبيق المثل الشعبى: «ضربنى وبكى، وسبقنى واشتكى»!
يجب أن يؤمن كل مشتغل بالسياسة أنه بحاجة ماسة إلى خصم أو معارض أو منافس كى يمارس عمله، تمامًا كما يحتاج فريق الكرة لفريق آخر كى يلعب المباراة.
أما أزمتنا الحالية التى تدخل يومها الأربعين، فلا حل لها إلا بالتفاوض الحقيقى، وهو ذلك التفاوض الذى يبدؤه كل طرف وهو على استعداد تام وكامل لتصحيح أفكاره ومواقفه والتراجع عما يثبت له أنه خطأ.
بفضل الله ورحمته: «باب التوبة لن يغلق الليلة».