أخبار عاجلة

.. وطن له «بوب»

مصر.. وطن له «بوب» .. وطن له «بوب»

ليس مطلوبًا من البرادعي إلا أن يظل البرادعي فحسب.

***

في عام 2005، وقف الرئيس الأسبق المخلوع، محمد حسني مبارك، ليكرم المصري محمد مصطفى البرادعي، الحائز على جائزة نوبل للسلام، وفي بث القناة الأولى الأرضية لأحداث التكريم، وقف البرادعي ليلقي كلمته التي لم تُعِد القناة الأولى بث وقائعها مرة أخرى!

ألقى البرادعي خطابًا ناريًا أقرب إلى التوبيخ السياسي لمبارك ونظامه، تطرق فيه لقضايا حقوق الإنسان واحترام المواطن والحراك السياسي واحترام الديمقراطية وقيم العدالة.

 جاءت كلمة الرجل خارج السياق المتوقع تمامًا، بدت أقرب للائحة اتهام لمبارك، وساعتها لم تتغير ملامح المخلوع إلا بعد دقيقة ونصف تقريبًا حين فطن إلى أن البرادعي «يطعن في شرعية نظامه» ويخاطبه هو بصورة شخصية، مسددًا عينيه من خلف منظاره في عيني مبارك من خلف بلادتهما.

***

في فيلم «سي عمر»، تم رفد الباشكاتب الأمين «جابر أفندي» الذي تساءل عن مصير العسل المختفي في العزبة وسط طنين النحل طوال اليوم، وعن مصير البيض المختفي وسط «مكاكية» الفراخ؟

 لخّص نجيب الريحاني في هذا الدور شخصية الباشكاتب المصري الأمين الذي يُحصي كل خردلة ويسأل عن مصيرها.. وربما في شخصية البرادعي طرف من هذا الباشكاتب.

 ***

في حوار واشنطن بوست قبل يومين مع البرادعي، يتكرر تعبير الرجل «طاولة المفاوضات»، في إيماءة إلى تكرار دعوته للإخوان للتفاوض، ثم يقول الرجل: «لقد تفاوضت مع .. أفلا أتفاوض مع الإخوان؟».

أي نعم، يبدو «البوب» كما لو كان يحل على الواقع المصري بمفردات صراعات أخرى، ويُسقط عليه تجاربه مع أزمات أكثر تعقيدًا إلا أن الثابت أنه يعتنق مذهبًا واحدًا للعدالة الإنسانية، وفقًا لمنظوره.

ويتبدى حسه الاستقصائي كموظف/باشكاتب دولي يتحرك بالقرائن والأدلة في سرده لأسباب ضرورة فض اعتصام رابعة، واضعًا الأمر بين ضابطين.. «الأمن القومي» من ناحية و«حقوق الإنسان» من ناحية أخرى.

وبين الأسباب والدوافع، يوضح «البوب» أن الإمارات والسعودية سارعتا لدعم بعد إسقاط مرسي، نظرًا لكراهية الدولتين للإخوان.. هكذا وببساطة ودون مواربات سياسية أو لفظية اقتضتها دبلوماسيات دولة مبارك وسيرك مرسي.. هكذا يمكنك أن تفهم موقع بلدك – أيًا كان- على رقعة الشطرنج الدولي.

ثم كشف أن سعي مصر لقرض صندوق النقد الدولي البالغ 4 مليارات دولار، هو سعي بغرض «انتزاع اعتراف» من صندوق النقد الدولي بأن الاقتصاد المصري «صحي»، الأمر الذي يجيب عن التساؤل البدائي الذي يعتمل في نفس كل من لا يفهم في الاقتصاد (وهم كثر): لماذا نسعى وراء 4 مليارات مرهقة في ظل سخاء ذات اليد الخليجية، خاصة وهي يحركها شنآن قوم/الإخوان.. وفي الشنآن أعظم الدافع لـ«الدفع»؟

القيمة الأكبر برأيي في حواره مع واشنطن بوست، أنه يكشف لي كمصري أطرافًا عن كواليس وفلسفة صناعة قرار بلدي ربما للمرة الأولى.. بعد قراءة هذا الحوار كاملاً، أحسست للمرة الأولى أني أفهم لماذا تتصرف مصر على هذا النحو وليس سواه، أيًا كان موقفي من هذا «النحو» أو غيره.

***

حين عاد الباشكاتب الأمين، جابر أفندي، في ثوب «عمر بك الألفي»، أحصى «ريش الفراخ» وعدّ أجولة الدقيق ووقف على أوراق ودفاتر العزبة، مالك بسيكولوجية باشكاتب. وهو ما يتضح في باشكاتباية البرادعي وفحصه لكل خردلة من خرادل حقوق الإنسان ومدنية الدولة.

***

في حوار البرادعي مع قناة الحياة، يرد البوب نافد الصبر: تقرير منظمة العفو الدولية أثبت وجود جرائم تعذيب في رابعة. والأهم في هذه الجملة ليس تقرير نائب رئيس الدولة للعلاقات الخارجية وجود تعذيب داخل أكثر اعتصام مزعج ومؤرق في مصر، بمقدار وجود مسؤول مصري على سدة السلطة يعزو المعلومة لمصدرها، ويرسي مبدأ حجية الأشياء، ويسوق الأسباب الملموسة والواضحة للأفعال، ويوضح أن الدولة المصرية لم تعتنق شيئًا أو ترفضه.

وربما من هنا كان في دراسة البرادعي للقانون تعميق لإدراكه في كيفية سوق الأسباب وتشخيص الدوافع وتوضيح الملابسات والتطرق للعلل، في خطاب سياسي قويم، تتسق بداياته مع نتائجه ومآلاته.

ومن يسمع البرادعي أو يقرأ له، لابد أن يخر راكعًا لله على نعمة تخليصنا من رجل «القرد والقرداتي والأصابع التي تلعب في مصر».. ورائعة «منحدر الصعود».

***

استقال البرادعي من عمله بوزارة الخارجية المصرية في نهاية السبعينيات اعتراضًا على اتفاقية كامب ديفيد، ثم حورب في رئاسته للوكالة الدولية للطاقة الذرية، ثم شُوّهت صورته مرارًا وتكرارًا، خارجيًا وداخليًا.

الأمر الذي ربما يفسر كم الضمانات التي يقال إنه يشترطها قبل عقد أي اتفاق، والأمر الذي قد يفسر تمسكه الكاثوليكي بمجموعة من المبادئ الكونية التي تجعله في صف العدالة والحق بصورتهما الرومانسية الأولى الخالصة.

ومن هنا كان جمال البرادعي في عين الناظرين إليه، كرجل جاء من العهود السحيقة.. يسمي الأشياء بمسمياتها، ولا يعرف من الحق إلا كله.. لا يعرف نصفه ولا أشباهه ولا الحلول الوسيطة التي تنتحل صفة الحق. (أو هكذا نظن فيه ونرى)

***

قال البرادعي في حواره مع واشنطن بوست، إنه يريد أن يصبح «كوتش» لا لاعبًا أساسيًا، في المرحلة القادمة، كاشفًا عن رؤيته لذاته قبل أن يكون كاشفًا عن نواياه السياسية.

بالطبع، يعتد البرادعي بنفسه ويؤمن بها، ويثق في تفويض ملايين من الشباب المصري الذين ربما لا يشاطرهم آباؤهم نفس القناعة حيال «البوب»، وربما جراء هذا، تتفلت منه بعض التعبيرات النرجسية.. المشروعة في حالته.

لكن ما عليه أن يدركه أنه فرصة مصر الطيبة التي واتتها في لحظة حرجة، وباشكاتب أمين جاء ليراجع عهود التدليس والتزييف والإفساد.. لكنه أبدًا ليس فرصة مصر الأخيرة.. وليس مسيحها الوحيد.

SputnikNews