أخبار عاجلة

الفرح يليق بك يا فينسينت

هل يجوز أن أكتب، فى ظلِّ ما نعيشه من إرهاب وويل، عن «فان جوخ»؟ الرجل النبيل الذى منح البشريةَ أطنانًا من البهجة والسموّ ورقصات سنابل القمح؛ رغم الحزن الذى دثّر حياتَه، ونوباتِ الصرع التى عصفت بأيامه، والوحدة التى نخرت عظامَ حجرته الفقيرة حتى قرر إنهاء حياته برصاصة فى الصدر، اخترقت قلبًا لم يعرف الفرح. نعم يجوز؛ لسببين. أولاً لأننى الآن أجولُ فى الريف الهولندى الذى احتضن هذا العظيم، بعد جولة نهارية فى متحف «فان جوخ» الوطنى بأمستردام. وثانيًا: لكى يتعلّم الأشقياءُ الذين يورثون البشرَ الدمَ والثكل والدمار، أنّ هناك مَن يورث الأرضَ أعمالاً خالدة تعيش من بعدهم قرونًا؛ فيكونون مثل الأنبياء الذين يتألمون لكى يهبوا السعادةَ لغيرهم. أولئك صُنّاع الفرح، نقيضُ صنّاع الهلاك الذين يتركون بصماتِهم السودَ ويمضون إلى الخانة المظلمة من التاريخ.

عاش الرجلُ فقيرًا محرومًا من الحب والبهجة؛ فقال: «سأصنعُ السعادةَ عن طريق خلق الجَمال». لكنه كان منهزمًا خائرَ الروح. لم يثق بنفسه أبدًا، فى حين منح ثقته الكاملة للألوان التى غمرت فرشاته الكثيفة ليتعلم منها، فيما بعد، أبناءُ المدرسة «الوحشية» و«التعبيرية». عرف كيف يمنح اللّونُ للإنسان طاقاتٍ نفسيةً وروحيةً هائلة. نوباتُ الصرع التى اعتادت أن تضربه، جعلته متقلّب المزاج فانعكس ذلك على لوحاته التى تطفرُ بالتباين اللونىّ الحاد. ففى حين خرج بعضُها مفرطَ الإعتام ينهل من سُمرة طمى الأرض القاتم، أشرقَت أخرى بألوان تتفجّر بالحياة والنور وذهبية القمح وطفولة الزهور. يحتلُّ هذا النبيلُ النحيلُ المساحةَ الأكبر من قلبى، من بين كلّ فنانى العالم. لأن أعصابه احترقت، وشمعة عمره ظلّت تذوى كلَّ مساء فى وحدته ووحشته، بينما ينكفئ على فرشاته وباليت ألوانه لكى يورثَنا مع كل ضربة فرشاة، كنزًا غنيًّا من أعظم لوحات التاريخ.

فى آخر خمس سنوات من عمره القصيرِ، 37 عامًا، رسم لنفسه أكثر من ثلاثين بورتريه شخصيًّا تمثل حالاته المزاجية المتأرجحة بين الكآبة والمرح الطفولىّ. آخر عامين، اعتزل الناسَ واعتكف فى ملجأ كنيسة «سانت ريمى». ورسم هناك أجمل لوحاته. وفى العام الأخير، عاش تحت رعاية شقيقه «ثيو» فى فندق صغير. حيث بدأت صحته فى التدهور السريع. وفى إحدى نوبات الإحباط خرج إلى الحقل القريب وأطلق النارَ على صدره، ثم تحامل مترنحًا ليُسلمَ الروح فوق فراشه فى 29 يوليو 1890، وآخر كلماته لأخيه: «الحزنُ سوف يدومُ إلى الأبد!».

فينسينت فان جوخ، أيها الحزين الذى وهبتنا إشراقة زهرة الشمس وجديلة القمح وحقول البطاطس وطواحين الهواء، يليق بك الفرح.

Twitter: @FatimaNaoot

SputnikNews