أنا مدين لإذاعة الأغانى ببعض الأوقات السارة جداً، إذ أسمع فيها من حين لآخر أغانى جميلة لم أسمعها منذ أربعين أو خمسين سنة أو أكثر، فتعيد إلى شبابى وصباى ولو لبضع دقائق. كما اكتشفت فيها أصواتاً جميلة حديثة علىَّ، «وإن كانت قد اكتشفها الناس قبلى بعشرة أو عشرين عاماً».
ولكنى أتذكر بوجه خاص يوماً استمعت فيه إلى شىء أثار فىَّ حنيناً شديداً إلى أيام جميلة مرت بمصر والمصريين، كما أثار فى ذهنى تساؤلات مليئة بالشجن.
كان ذلك اليوم هو الخميس الأول من الشهر، والوقت قبيل منتصف الليل، وإذا بالمذيع يقول إن إذاعة الأغانى سوف تذيع فى الخميس الأول من كل شهر تسجيلاً لأغانى لأم كلثوم غنتها فى حفلاتها الشهرية «أيضاً فى الخميس الأول من كل شهر»، ولم يسبق إذاعتها قط منذ غنتها أم كلثوم منذ نصف قرن أو أكثر.
وإذا بى أسمع تسجيلاً بديعاً لأغنية «رباعيات الخيام» كما غنتها أم كلثوم فى 6 مايو 1954، أى منذ ستين عاماً، فى مسرح الأزبكية، وكان يوماً من أيام رمضان.
أغنية رباعيات الخيام من أجمل ألحان السنباطى فى نظرى «أو فى أذنى»، ولدىَّ تسجيل لها لم أسمعه منذ أكثر من عشرين عاماً، ولكن أن أسمعها كما غنتها أم كلثوم وهى فى قمة مجدها، وصوتها فى أجمل حالاته، فهذه كانت المفاجأة السارة. من أين أتى إذن الشجن والحزن؟
سمعت كلمات الأغنية بمعانيها الجميلة، وبترجمة أحمد رامى الموفقة جداً، ووصلتنى تعبيرات الناس عن حماسهم لأم كلثوم بالتصفيق الحار والهتاف كالعادة، ولكنى أيضاً لاحظت حماسهم لأبيات لا يمكن أن يقبلها الذوق المصرى السائد الآن.
الأبيات تحض الناس على حب الحياة والتمتع بها، وتعتبر حراماً أن يرى المرء الشىء الجميل فلا يذوقه ولا يعبر عن فرحه به، فتقول مثلاً:
«واغنم من الحاضر لذاته فليس فى طعم الليالى الأمان
ولست بالغافل حتى أرى جمال دنياى ولا أجتلى»
وتقول إنه لا يصح أيضاً أن يرى المرء الوجه الجميل فلا يقع فى حبه أو لا يصرح بهذا الحب:
القلب قد أضناه عشق الجمال والصدر قد ضاق بما لا يقال
أولى بهذا القلب أن يخفقا وفى ضرام الحب أن يحرقا
ما أضيع اليوم الذى مرّ بى من غير أن أهوى وأن أعشقا
كيف كان من السهل على الجمهور المصرى أن يتجاوب إلى هذه الدرجة مع مثل هذا الكلام منذ ستين عاماً، ولم يعد يستطيع ذلك الآن؟ لماذا كل هذا التشدد والتجهم، والإصرار على حرمان النفس والناس من متع الحياة؟
القصيدة تنتهى بطلب المغفرة من الله، وتغنى أم كلثوم هذا بخشوع وبنغم رائع للسنباطى:
إن لم أكن قد أخلصت فى طاعتك فإنى أطمع فى رحمتك
وإنما يشفع لى أننى قد عشت لا أشرك فى وحدتك
يا عالم الأسرار علم اليقين يا كاشف الضر عن البائسين
يا قابل الأعذار عدنا إلى ظلك فاقبل توبة التائبين
فلماذا كان المصريون قادرين منذ ستين عاماً على تصوير الله على هذا النحو البديع: لا نهاية لغفرانه ورحمته، بدلاً من التصور الشائع الآن، وكأن العقاب أسرع بكثير من الرحمة؟
■ ■ ■
بدا لى أن وضع السؤال على هذا النحو قد يفتقر إلى الدقة، فالمصريون ليسوا شيئاً واحداً، حتى وإن أجمعوا كلهم تقريباً على حب أم كلثوم، وحرصوا جميعاً على الاستماع إليها، والذين كانوا يذهبون إلى حفلات أم كلثوم الشهرية، ويصفقون لها وللكلام الذى تغنيه بكل هذا الحماس، كانوا ينتمون إلى طبقة متوسطة حظيت بدرجة معقولة من التعليم، والتعليم أيامها كان أرقى بكثير منه الآن. كما أنها كانت أيضاً طبقة غير «متشنجة»، لأنها كانت راضية عن حالها، وعن نفسها، وليس لها تطلعات مبالغ فيها للصعود، وتعذبها بالنهار والليل، ومخاوف شديدة من أن يتدهور حالها لتنضم من جديد إلى الطبقة الدنيا.
باختصار كانت هذه الطبقة تفهم الدين هذا الفهم الراقى، لأنها هى نفسها كانت «طبقة راقية» (على الرغم من أن هذا الوصف كان يطلق فقط، فى ذلك الوقت، على الطبقة الأعلى دخلاً). نعم، كانت الطبقة الوسطى فى مصر منذ ستين عاماً «راقية» بالمعنى الأخلاقى والذهنى، ومن ثم كانت هى نفسها مستعدة للتسامح والغفران، ومستعدة للإقبال على متع الحياة دون إسراف، ولا تصرّ على حرمان نفسها وحرمان غيرها من هذه المتع المشروعة. وطبقة لها هذه الصفات الخلقية والذهنية، مستعدة أيضاً لفهم الدين بمعنى الغفران والتسامح، وليس بمعانى تؤكد على العذاب والعقاب.
■ ■ ■
اقتنعت بهذا التفسير لما حدث من تغير فى موقفنا من «رباعيات الخيام»، وشعرت بالأسف لما حدث، ولكنى لم أفقد الأمل قط فى قدرتنا على تصحيح الخطأ. إنى لا أقصد بالطبع «استعادة الزمن الجميل»، فالذى مضى لا يعود، ولكنى أقصد أن الطبقة الوسطى المصرية ليست عصية على الإصلاح، وإن كان الإصلاح لا يتم فى رأيى بإلقاء المواعظ، وترديد القول بأن الإسلام الصحيح هو كذا وليس كذلك، فالإنسان سيظل يفهم الدين دائماً فى الحدود التى يسمح له بها «استعداده النفسى» وتغيير هذا الاستعداد النفسى لا يتم بإلقاء المواعظ، بل بأشياء أخرى: تلبية الحاجات الضرورية جزء منها، وتحقيق العدل فى معاملة الناس جزء آخر منها، والشعور بالاطمئنان إلى ما يمكن أن يأتى به المستقبل لى ولأولادى جزء آخر. وأثناء العمل لتحقيق هذا، لا بأس من الارتقاء بحالة التعليم أيضاً، بل لا ضرر من إلقاء بعض المواعظ بين الحين والآخر، بشرط أن تأتى من وجوه سمحة ومبتسمة.
اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة