أخبار عاجلة

وقد عذبوه بـ«نهرو»!

أتذكر جيدا تلك اللحظة الكئيبة منذ نحو 10 سنوات، وأنا أقطع مئات المترات داخل معتقل الواحات، منتظرا أن ينادي أمين شرطة اسمي كي أخضع لتفتيش دقيق، قبيل تمكيني من زيارة أبي.. المعتقل آنذاك.

وبعد رحلة انتظار في شمس ساحة معتقل الواحات امتدت لقرابة الـ3 ساعات، وبعد رحلة استغرقت من القاهرة للمعتقل المهجور نحو 10 ساعات كاملة، وبعد هلع الزائرين الذين لمحوا ثعبانا ضخما في مدخل السجن، دخلت على أبي في مكتب مدير المعتقل لأزوره زيارة لا تستغرق أكثر من 20 دقيقة، حصلنا على 10 دقائق زائدة عليها، تعاطفا وإنسانية من ضابط أمن الدولة الذي خالف أوامر الداخلية بالتضييق الزمني على الزيارة لأقصى وقت ممكن.

كان أبي قد فقد قرابة 8 كيلوجرامات من وزنه، وبدا عليه الإرهاق والأرق، ولما سألته عن سر هذا التدهور المضاعف، قال لي: بيعذبونا هنا.. بيعذبوننا بـ"نهرو"!

حاول ضابط أمن الدولة قطع الحوار، موجها خطابه لأبي : «المعتقلين دبحوا عجل النهارده الصبح..وصلتك لحمة منه؟».

لم ألتفت إليه، سألت أبي بصوت عال: إنت خاسس ليه؟

قاطعني الضابط: المعتقل عندنا بيطلع عادة وزنه زايد.. إحنا بنعاملهم كويس.. وبياكلوا كويس.. وهما هنا مرتاحين.. مفيش ضغوط.. مفيش شغل.. بيقروا ويصلوا ويدبحوا عجول وياكلوا لحمة.. يا راجل كلهم وزنهم زايد وبيطلبوا من أهاليهم جالاليب أوسع كل زيارة (ثم ضحك!).

سألت أبي بصوت خفيض: إيه «نهرو» دي؟

قال لي: واحد معتقل معانا.. مختل نفسيا، بينام طول النهار، ويقعد يزعق ويغني طول الليل، وصدى الصوت في الصحرا اللي إحنا فيها دي مع فراغ طرقات العنابر.. بيحسسك إنه بيصرخ في ودنك!

ولم لا يرحلونه لمستشفى الأمراض العقلية يا أبت؟

قالوا لنا: خليه يسليكم!

وبتعملوا إيه: كلنا بنصحى طول الليل على تخبيطه وصراخه وغناه.. ومحدش عارف ينام!

***

لم أسأل بعدها عن «نهرو».. ربما كنت أخاف من شيء ما في سيرته!

أيا كان جرم نهرو- إن كان مدانا فعلا- فهو بالنسبة لي شخص فقد قواه العقلية (تحت وطأة التعذيب؟) ثم تركوه في زنزانة انفرادية في سجن يقع في بقعة قاسية من الصحراء الغربية.. ينام نهارا، ويصرخ ليلا.

نسمع كثيرا عن قصص التعذيب والانتهاك، لكن بعضها يؤلمنا أكثر مما سواه، ربما هو هذا البعض الذي يمكن أن نقع فيه مستقبلا، هذا البعض الذي يشبهنا أو الذي نتخوف أن نكونه ونصيره.

هل كنت أخاف أن يموت نهرو في فجر ليلة ما دون أن يكتشف أحد موته إلا بعد وقت طويل؟ من الوارد.

هل كنت أخاف على أبي أن يفقد قواه العقلية؟ لا أظن.

هل كنت أخاف على نفسي أن أُسجن يوما ما وأن أفقد قواي العقلية؟ على الأرجح لا..

هل كنت أخاف أن يتركوني بمفردي أصرخ دون أن يعيرني أحد انتباها؟ يبدو الأمر كذلك..

هل هو خليط من كل الهواجس السابقة؟ نعم!

كنت أتساءل على نحو وجودي، وبسذاجة توائم هذه السن الحالمة (قبيل العشرينيات بقليل) لماذا تعذب الداخلية معتقليها؟ ولماذا يتركون«نهرو» دون أن يعالجوه؟

***

مرض أبي بعدها بفترة وجيزة وتم ترحيله لأحد المشافي الصحية تحت حراسة مشددة.

في طريقه من وإلى معتقل الواحات بالوادي الجديد كان قد انكسر أحد أضلاعه جراء فرملة مفاجئة لسيارة الترحيلات التي كانت تقله بمفرده.. مقيدا بالكلابشات!

ولم أفهم ما ضرورة كلبشة معتقل داخل عربة ترحيلات تنقله بمفرده؟ ثم أخذت أتساءل على نحو وجودي أكثر كآبة: هل يكلبشونه في سرير المستشفى أيضا؟

***

هناك نهايتان ممكنتان لهذا المقال، الأولى أن أقول لك إن أبي خرج من هذا المعتقل بمعجزة سماوية (بعدما رفضت داخلية العادلي تنفيذ 5 أحكام قضائية تقضي ببراءته من أي تهمة).. ثم دخل المعتقل مرة أخرى بذريعة مختلفة بعدها بفترة، وأنه من وإلى السجون والمعتقلات، يحكي لي أشياء مفزعة عما يحدث بالداخل.. وأن التعذيب عند الداخلية منهج وعقيدة أشبه ما تكون صائرة على نحو أشبه بالإرادة الإلهية النافذة.. وأن الضباط مسيرون فيها لا مخيرون.

والثانية أن أكون أكثر صراحة معك.. أنني حين رأيت «دهب» في كلبشاتها، تخيلت صورة أبي مقيدا إلى سرير بأحد المشافي.. وتذكرت نهرو في زنزانته وهو يصرخ في جوف الليل دون أن يستمع أحد إلى هذيانه.

في الثانية، لن أميل لاعتبار الداخلية جهازا إداريا من أجهزة الدولة، يشوب العوار والفساد واللامنطق ممارساته.. بل سأعود معك 10 سنوات للوراء وأتساءل: لماذا يكرهوننا لهذا الحد؟ لماذا يحتقروننا ويحتقرون حياتنا وصحتنا وأجسادنا إلى هذا الحد؟

ثم من هؤلاء الذين يكرهوننا ويحتقروننا هل هي الداخلية أم الداخلية والنيابة؟ أم الدولة نفسها؟ أم من هم هؤلاء؟

لم أعد أعتبر الداخلية، ومن يبرر لها آثامها، جزءا من الدولة والمجتمع.

بل هم الآخرون.. من هم هؤلاء الآخرون؟ لا أعرف.. لكن قلوبهم سويت من مادة ما غير التي سويت منها قلوبنا.. ولسبب ما هم يحكموننا ويتحكمون فينا.

SputnikNews