مضت إلى رحاب ربها فى سرعة خاطفة كالشهب والنيازك، وعاشت حياتها كالشمعة تحترق من أجل الآخرين، إنها السيدة «علا زكى» زوجة الدكتور «رؤوف غبور»، رجل الصناعة المعروف، كانت أما لكل أطفال مصر، وهى عمودٌ أساس فى قيام مستشفى سرطان الأطفال (57357) حيث لعبت دوراً كبيراً فى جمع التبرعات لها، وحشد الرأى العام حولها، وظلت وفية لرسالتها الإنسانية فى هذا المستشفى، وفى غيرها من عشرات الأعمال الخيرية، لأنها آمنت بأن الإنسان لا بد أن يقف إلى جانب أخيه الإنسان بغض النظر عن الاختلافات والأديان، وأنا أظن أن رحيلها المفاجئ إثر مرض قصير قد أدمى قلوب عارفيها، وترك أثراً حزيناً لدى كل من تعامل معها، وأنا واحد منهم فقد تشرفت بمعرفتها منذ ربع قرن تقريباً، خصوصاً عندما تعرض زوجها الصديق لمحنة ظالمة فى قضية مفتعلة، ووقفت تلك السيدة الفاضلة إلى جانب زوجها فى شجاعة وإخلاص حتى تأكدت براءته بعد فترة من الظلم، الذى لا مبرر له، ولا تفسير لأسبابه، وكانت تزور ابنها الأكبر «كمال» ـ الذى يحمل اسم جده لأبيه ـ فى «الولايات المتحدة الأمريكية» من حين لآخر حيث كان يدرس هناك، معتزة بأسرتها الصغيرة، التى قدمت زوجة لابن الوزير الصديق «منير فخرى عبدالنور»، الذى كنت أتابع معه أيامها الأخيرة، وهو يحدثنى عن إيمان والدتها، التى كانت تعيش فى ذهول مشوب بالثقة فى الله، وهى ترى ابنتها الكبرى تذوى يوماً بعد يوم وتستأذن فى الرحيل، كما جمعتنى صلة طويلة بشقيقتها الدكتورة «منى زكى» منذ كانت مسؤولة العلاقات الخارجية فى «الجامعة الأمريكية»، حتى أصبحت أستاذة فيها وفى غيرها، ويوم جاءنا الخبر أن روح «علا غبور» قد صعدت إلى السماء شعرت بأن استقبالاً طيباً ينتظرها فى ملكوت الخلود، حيث تذكر لها الملائكة أنها كانت تحتضن الأطفال المرضى بالسرطان، وهم يخرجون باكين من غرفة «العلاج الكيماوى»، وبالمناسبة فليس هناك أتعس من الطفل المريض، والعجوز الفقير فكلاهما يعانى فى وقت يحتاج فيه إلى غير ذلك، إن السيدة «علا غبور» كما يعرفها الجميع هى نموذج فريد لسيدة أعطت للمجتمع المصرى دون تفرقة أو حدود، وهى تجسد أهمية العطاء الخيرى فى حياتنا الاجتماعية، وتستحق عن جدارة لقب «أم الأطفال»، ولست أنسى يوم ذهبنا للعزاء فيها فى المبنى الملحق بكنيسة «المرعشلى» فى «الزمالك» لقد رأيت آلاف المعزين من مسلمين ومسيحيين، وهم يحتشدون فى طابور طويل يكاد يغلق الشارع بكامله وصولاً إلى أم الراحلة وزوجها وأبنائها وأختها يقدمون العزاء فى خشوع حزين، ويغلقون ملفاً لسيدة من مصر عاشت أوجاع الناس، وعرفت معاناة الفقر، ومرض الأطفال وأحزان الكبار، ولقد التقيت السيدة الفاضلة والدتها منذ فترة وجيزة على مائدة عشاء بدعوة كريمة من الصديق السفير الفرنسى فى القاهرة، ولاحظت الحزن الدفين فى قلبها والابتسامة الغائبة من وجهها.
إننى إذ أكتب اليوم عن سيدة رحلت عن عالمنا، واستأذنت فى الانصراف مبكراً، فإننى أدعو إلى إطلاق اسمها على جناح كبير فى مستشفى سرطان الأطفال، الذى أسهمت فيه، وعاشت سنواتها الأخيرة تحمل رسالته، وأدعو مجلس أمناء المستشفى برئاسة صديقى الأستاذ الدكتور «أسامة سليمان»، ونائبه صديقى أيضاً الأستاذ الدكتور «عمرو سلامة» إلى تكريم هذه السيدة إن لم يكن ذلك قد حدث بالفعل، كما أدعو أيضاً الدكتور «شريف أبوالنجا»، دينامو ذلك المستشفى، إلى أن يقيم مناسبة باسمها، ولا زلت أتذكر عندما ذهبت أكثر من مرة لزيارة ذلك الصرح العظيم، ووجهت له جزءاً كبيراً من عائد جائزة «النيل»، التى حصلت عليها منذ سنوات، كما وجهت الجزء الآخر كجائزة سنوية لأفضل خريج فى مادة العلاقات الدولية من كلية «الاقتصاد والعلوم السياسية»، التى تخرجت فيها، لأننى مؤمن بأن محنة الوطن المصرى تدور حول محورى «التعليم» و«الصحة».. رحم الله السيدة «علا غبور» فى مكان لا يعود من ذهب إليه، ولكن تبقى الذكرى الغالية ترصع اسم صاحبتها إلى أبد الآبدين.
Twitter:DrMostafaElFeky