أخبار عاجلة

ترجمات .. رسائل السجون.. «ناديا وسلافوى جيجك»

ترجمات .. رسائل السجون.. «ناديا وسلافوى جيجك» ترجمات .. رسائل السجون.. «ناديا وسلافوى جيجك»

اشترك لتصلك أهم الأخبار

ليست مجرد مراسلات بين مناضلة سياسية معتقلة خلف القضبان الروسية، وبين فيلسوف يسارى حر خارج القضبان.. إنها جولة من جولات اليسار العالمى فى محاولة فهم العالم الذى نعيش فيه وتخيل المنظومات الاقتصادية والسياسية التى تحكمنا. تخوض ناديا تولوكونيكوفا نقاشاً فكرياً حاداً مع جيجك. تسحبه معها إلى الزنزانة، ليرى المجال الحى للنضال. فيما يأخذها خارج القبضان كى ترى الأمداء التى وصلت إليها أفعالها، وكلاهما من موقعه، يقارع وحشية الرأسمالية التى تتفاقم يوماً بعد آخر.

صدرت «ناديا وسلافوى جيجك..» عن سلسلة أدب السجون لدار الرافدين (العراق /بيروت) للفليسوف الروسى ميشيل التشانينوف ونائب رئيس تحرير مجلة الفلسفة الصادرة بموسكو، وترجمة وتعليق رغد قاسم.

قرابةَ الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الحادى والعشرين من فبراير 2012. حدث شىء لا مثيل له فى المعاصرة، وقد شهدته أكبر وأشهر كنيسة أرثوذكسية فى البلاد..

لم تكن ثمة مراسيم فى صباح ذلك الثلاثاء بالذات، كان الهدوء يغمر المساحة الشاسعة للكاتدرائية، بينما خمس نساء شابات تجتزن حاجز الأمن دون عائق، ثمّ سرعان ما تتوجّهن إلى المنصة المخصصة لقراءة النصوص المقدسة من قبل رجال الدين أمام المذبح. تتقنّعن بأغطية رأس صوفية ملوّنة بالأحمر والأزرق والبرتقالى والبنفسجى. نزعت الشابات الخمس المعاطف، كاشفات عن فساتين قصيرة وجوارب زاهية الألوان. ذُعِرَتْ عاملة الصيانة واتصلت بالأمن؛ ليهجمَ أحد رجال الأمن على امرأة شابة تحمل جيتاراً، سحبها بعيداً، وعادَ ليصادرَ مكبّر الصوت. حاول موظفو الكنيسة اعتراض النساء الأربع الباقيات، لكنهنّ كنّ قد بدأنَ بالفعل غناء «صلاة البانك» التى يقول مطلعها: «مريم العذراء، يا أمّ الربّ، أبعدى بوتين». لقد استنكرَت أغنيتهن استنكاراً شديداً الفساد المستشرى فى الكنيسة

الروسية اليوم، وأيديولوجيتها الرجعية للغاية (لا تزعجن قداسته يا سيدات، التزمن بممارسة الحب وإنجاب الأطفال)، كما انتقدت كيريل الأول بطريرك موسكو، ودعمه اللامشروط لسياسات فلاديمير بوتين القمعية (البطريرك غوندياييف يؤمن ببوتين، الأفضل أن تؤمن بالربّ أيها الحشرة). انحنت مغنيات البانك، ورسمن علامة الصليب بدراميّة، ومن ثمّ ختمن الأداء بالدعوة: «انضمى إلى احتجاجنا يا مريم المقدسة».

لم يستمر كل ذلك الأداء إلا بضع ثوان قبل أن تهرب النساء من الكنيسة، برفقة الأشخاص العشرة الذين جاءوا للتصوير والمساعدة؛ وما إن تمّ تداول أول الصور ومقاطع الفيديو وبدأ ذلك الحدث بالانتشار فى جميع أنحاء العالم، حتى تمّ القبض على ثلاثة من أعضاء المجموعة وإيداعهم فى الحجز المؤقت واتهامهم بالشغب (المادة 213 من قانون العقوبات)، واجهت كلّ من نادشيتدا تولوكونيكوفا (مواليد 1989) وماريا اليوخينا (مواليد 1988) وياكترينا ساموتسيفيتش (مواليد 1982) احتمال السجن لمدة قد تصل إلى سبع سنوات.

يقول ميشيل التشانينوف، نائب رئيس تحرير مجلة الفلسفة، قام بجمع تلك المراسلات وأصدر هذا الكتاب: كتبتُ مرة لسلافوى جيجك، واقترحتُ عليه أن يأتى إلى موسكو ليلتقى ناديا. حينها كانت ناديا لا تزال فى العاصمة فى انتظار نتائج جلسة الاستئناف، وكانت خطتى أن أقوم بنشر نقاشاتهما فى مجلة الفلسفة، وأجاب جيجك بسرعة: «نعم، بالتأكيد!» طلبت مساعدة زويا سيفيتوفا، وهى صحفية تعمل مع النيو تايمز التى نشرت المقابلة التى عبرت فيها ناديا عن إعجابها بجيجك. كان من غير الواقعى تخيّل الذهاب إلى هناك مع جيجك، إذ لم يكن أحد ليعطيه إذناً بالزيارة. لذا اقترحت عليه فى ديسمبر 2012 مراسلة ناديا، وقد قبل ذلك بحماس، وأرسل لى أول رسالة له.

تم تبادل الرسائل على النحو الآتى: كنتُ أقوم بترجمة رسائل جيجك من اللغة الإنجليزية إلى الروسية ثمّ أُرسلها إلى زويا سيفيتوفا إلى دائرة السجون الاتحادية إلى نظام للرسائل الإلكترونية الداخلية، ولكن بفضل تصريح الزيارة لدى زويا، فقد كانت قادرة على إرسال الرسائل إلى ناديا عبر رمز وصول خاص، بعد أن تقوم سلطات السجن بقراءتها والتحقق منها، يتم إرسال الرسائل إلى السجينة. كانت ردود ناديا تُكتَب باليد على فورمات خاصّة، ثمّ تمر رسائلها عبر نظام الرسائل الذى تشرف عليهِ إدارة السجن، وتُرسل إلى الوجهة التى تدفع بدورها كلفة هذهِ الخدمة. من الجليّ أن تلك الرسائل كانت تخضع لرقابة السلطات، وما إن تصل الرسائل إلى زويا حتى تُعيدَ إرسالها إلى، من أجل أن أنقلها إلى الإنجليزية، وأرسلها بدورى إلى سلافوى.

كنتيجة حتمية لهذا الحواجز كان إيقاع المراسلات بطيئاً للغاية. ولمعرفتها بأنّ سلطات السجن كانت تقرأ رسائلها، تجنّبت ناديا الخوض فى تفاصيل حياتها اليومية فى السجن. على أى حال فهى قد فضّلت - وكذلك فعل مراسلها- أن تبقى رسائلهما فى حدود النقاش الفكرى، وبالنتيجة جاءت هذهِ الرسائل مزيجاً مُفككاً من الشعر والغضب، مزيجاً منقطع النظير من عمق الديالكتيك الجديد للماركسية. لكن خلف هذا اللقاء الإنسانى الاستثنائى بين قائد من قادات المعارضة العالمية وبين ناديا، باعتبارها رمزاً للمضطهدين. كما أنّها قد أوضحت انتماءها لمدرسة المفكر الروسى العظيم نيقولاى بيرديائيف ؛ رسول الحرية المعاصرة والداعى لتجديد الدين كثورة ضد القوانين الأرضية. واعتبرت أنّ حجزها نتيجة منطقية لأفعالها، واستنتجت بشجاعة: «عندما تلامسك روح العالم، فلن تتركك سالماً بلا خدش»، وقد علمنا فيما بعد بالظروف المريعة لحجزها، وما كان يجرى فى وقت كتابتها تلك السطور.

فى الواقع يرى جيجك أنّه: «لم يعد بإمكان المرء لعب لعبة تخريب النظام فى موقع دون آخر؛ بما أنّ النظام يحمل فى داخله خرابه أصلاً، مع التطور الكامل للرأسمالية المتأخرة؛ تصبح الحياة «الطبيعية» نفسها «كرنفالاَ» بانتكاسات وأزمات واختراعات مستمرة، فلا يمكن أن نجابه كرنفالاً بالترويج لكرنفال آخر. عند تلك النقطة تأجّج النقاش بينهما؛ إذ قدمت ناديا لسلافوى اعتراضاً ماركسياً بحتاً، راسخاً فى حقيقته: لم يكن من الممكن وجود الرأسمالية غير المادية الساذجة للمبدعين الغربيين، من غير خلفية يتم تجاهلها دائماً من قبل الماركسيين أنفسهم ألا وهي؛ الاضطهاد الكبير للفقراء فى الأنظمة الاستبدادية مثل الصين أو روسيا، وهكذا استمر الجدل. قد دفعتها تجربتها فى السجن للتفكير بالتحليل الماركسى المعاصر، والذى تراه استعمارياً (كولينالياً) تقريباً، حيث الافتتان بالاقتصاد غير المادى وبالإبداع الغربى الكرنفالى يُغفل الاستغلال الحقيقى فى الشرق.

رغد قاسم

هذا التوبيخ الذى تعرّض له سلافوى من قبل هذهِ المفكرة الشابة أوجب عليه بذل قصارى جهده فى الإقناع. فى رسالته إلى ناديا التى سيتم الإفراج عنها قريباً، يقدّم لها جولة عالمية فى العبودية الطوعيّة. فى هذهِ الرسائل، تمّسك المفكران بالواقع، أكثر من أى وقت مضى، وقد تضمّنت الرسائل تحليلاً شرساً وثاقباً لطريقة عمل العالم.

تم الإفراج عن ناديا وماشا فى 23 ديسمبر 2013، حيثُ أطلق بوتين سراحهما، قبل شهرين من بدء دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية فى سوتشى؛ لتجنب المشاكل. لكن نضالهما كان قد بدأ للتو، وكذلك الحوار بين ناديا وسلافوى.

المصرى اليوم