أخبار عاجلة

سعيد عثمان يكتب: انتظار (قصة)

سعيد عثمان يكتب: انتظار (قصة) سعيد عثمان يكتب: انتظار (قصة)

اشترك لتصلك أهم الأخبار

على مرفقى أتكئ كعادتى كلَّ صباحٍ أرقبُ الطريقَ من شرفتى العالية.. ببقايا نعاسٍ فى نظراتى وملامحى أتظاهر أنى أروى زهور شرفتى. فى الشارعِ الذى بدأ يزدحم، تدورُ عيناى مراتٍ ومرات.. لاهثةً تُطلُّ منها النظرات.. تحومُ بين جنباتهِ.. تدورُ.. ترتدُّ.. تستدير.. تحدِّقُ فى الخطوات، تتفحص الوجوه.. يعودنى الأمل من جديد؛ فيخفق قلبى مرتعشًا مراتٍ ومراتٍ قبل أن تعقبه زفرةٌ طويلةٌ لحسرةٍ معتادةٍ وخيبة أمل. هكذا انتهى إليه حالى منذ سنوات: يداعبنى خيالى المبتور وأداعبه، يلتصق بى ليلَ نهار فلا أفارقه.

أتساءل: «تُرى هل تخلى رسولُ وحيه عنى فاستلبَ منى كلَّ تواصلٍ وإلهام؟».. ما زلت أذكر كيف كانت تقتحمنى صورته فجأة فى بيت أبى دونما موعدٍ محددٍ أو سبب، هكذا فجأة دون تفكيرٍ أنتفض.. ما خاب مرة فى صدرى مثل هكذا شعور تواصلٍ وإلهام.. أتساءلُ فى وجلٍ: «أيكون الحبُّ إرهاصَ نبوةٍ، ورسولَ وحىٍّ وإشراق؟».. من خلف النافذة أجده وقد أوشك يمد يدَه كى يزيحَ الرتاجَ الخشبى لباب بيتنا الخارجى.. مع أزيزِ الباب؛ يرتجُّ صَدرى بدقات قلبى الشغوفة المتسارعة.. يخطو إلى الداخلِ فتحتضنه فى شوقٍ نسائمُ الفل والياسمين.. لكننى أنا اللاهثة التى بت ليلَ نهارٍ أترقبُ مقدمه وأنتظر؛ ها أنذا من جديد أخون وحىَ إلهامه ولهفة رسالته. بخجلٍ طفولى أتوارى بسرعةٍ خلف الفتحة الضيقة المواربة من النافذة.. ألملم شتاتى.

أخمد لهفةَ جسدٍ نابضٍ مرتعشٍ ينتظر؛ لكنه يأبى على نفسهِ إلا أن يغترب. أتوسلُ إلى دقات قلبى اللاهثة كى لا يسمع ضجيجها أحد.. أجففُ عَرقى.. أحتضنُ سرّى داخلى، وأنزوى بعيدا فى ركنى المعتاد من غرفتى.. تمرُ الدقائقُ وربما الساعات وأنا السجينةُ التى لا تملُّ قيدَ الانتظار.. أنصِتُ لصوتهِ المتهدج المفعم بسوط الترقب ورعشة الحنين. من نبراتِ صوتهِ، أعرف متى بدأ انتظاره يقتله.. بل متى بدأ يقتلنى.. يخنق رغبتى.. لهفتى.. يغتال تصوراتى الجنونية الأثيرة.. تنهار منى المقاومة.. أكاد.. أكاد من باب غرفتى الموارب أن أعبرَ الخطَّ الفاصلَ بين الوجودِ والعدم.. بين الحقيقة والوهم.. أقترب.. بأصابع مرتعشةٍ، أمسكُ المقبضَ النحاسىّ كى أتابعَ خطواتى العجولة المتثاقلة.. من الصالةِ القريبة، يصلنى سُعالُ أبى الأجش وهو ينفث دخانَ غليونهِ الأثير، يخوضُ فى حديثٍ غيرَ الحديث. تتجمدُ لحظاتى.. تنكمشُ أطرافى، تتصلبُ مرتدةً نحو قالبى.. يطاردنى ميراثُ أنوثتى من جديد.. أنكمش.

يحذرنى: «الصَبُّ تفضحُه ُه».. من خلف ارتعاشة خفقات قلبى المكلوم، أدركُ أننى فى الصبابة قد غرقت، وتكدست حولى الظنون.. يكبلنى الخوف؛ وكأنما الموجودات حولى كلها عيون.. يستلبُ منى جرأةَ المحاولة.. ترتعد فرائصى لكن ما توأد رغبتى.. أنهارُ على فراشى من جديد.. باكية أسنِدُ رأسى على الحائطِ الباردِ؛ وأبدأ الاجترار.. أغمضُ العينينَ.. أستعيدُ نبراتَ صوته.. صورتَه.. وملامحَ وجهه الغاضب حين يخرج كل مرةٍ خالى الوفاض. أبكى وأنا أمنِّى النفسَ بالصمود فى المرة القادمة!. خلف دموع خلوتى أعترف: «أنا أرضٌ عطشى قد سفعها الجفافُ والظمأ.. وهو سحابتى المسافرة، ومُزن غيمتى المثقلة الراحلة التى لم يذق عذوبةَ قطرات مائِها من قبلُ أحد».. يصفعنى فصامى الموروث منذ القدم.. تدهسنى قلةُ حيلتى.. فأنكفئ فى حوصلةِ الانتظار. منذ فترةٍ ليست قريبة.. حدثتنى جارتى الطبيبة التى تسكن على مقربة من مسكنى الجديد، تجولت عيناها بين زهور شرفتى الصغيرة.

قالت بدفءٍ: «أزهارك جميلة، لكن عِطرَ بتلاتها حزينٌ حزين».. ناولتها فنجانَ القهوة الرمادى.. رشفتْ رشفةً صغيرة وبمكرٍ أردفت: «للنفس غاياتٌ وحِيَل.. ولحيرة القلوبِ برهانٌ وعنوان!..». كدتُ أن أرد: «ألغير هذا السبب ملأتُ بالزهور شرفتى؟».. بحذرٍ شديدٍ، قمتُ أسكُبُ بعضَ قطراتٍ من مياهٍ باردةٍ فى أصيص نبتةٍ عطشَى تنتظر. قلت لها وأنا أشيرُ نحو زهرةٍ اغتالها الذبولُ، بينما أتصنعُ الابتسام: «ماذا يمكن أن يصنعَ المزنُ فى نبتةِ الجفافِ والظمأ؟».. بعد صمتِ حديثٍ.. هزَّت الرأسَ، وزاغت بيننا العيون!.. سنواتٌ مضت، ولمّا يزورنى الملل.. أمارسُ عادتى.. أصطحبُ فصامى الموروث داخلى.. أتكئُ كلَّ صباحِ شمسٍ وغروب بمرفقى على سورِ شرفتى.. أرقبُ الطريقَ، وأنتظر أن يطرقَ بابَ قلبى الأمل. وها أنذا الآن بعد طولِ انتظارٍ، قد رأيت خطواتَه العَجلى من بعيدٍ تقترب.. ارتجفتُ.. حدّقتُ أمعنُ النظر.. مددتُ رقبتى وصرتُ أنتظر سهامَ نظراتى أن تكونَ فى موضع اليقين.. مع صخبِ سيارةٍ مسرعةٍ ارتفع من خلفى صوتٌ قريب: - نجلاء.. نجلاء.. أين قهوتى والفطور؟ - حالا حبيبى!.. دقيقة واحدة.. قبل أن أبتعدَّ عن مكانى المفضل فى شرفتى.

تحررت منى النظرةُ الأخيرة نحو الطريق.. ها هو ذا بعد طولِ غيابٍ قد اقترب وكادت أن تَبينَ ملامحُه.. ارتجفَ جسدى.. اهتز كيانى وقفز قلبى راجفًا عن موضعه، تجمدتْ حدقتاى للحظاتِ قبل تصفعنى من جديدٍ رائحةُ غليونِ أبى، مثل كلّ مرةٍ أنبأتنى أسواطُ يقينى بفقدِ إرهاصات نُبوَّتى.. أطلقتُ زفرةَ حسرةٍ ليست بأخيرة. مثل نبيةٍ توقفَ عنها الوحيُّ والإلهامُ فما عادَ يصدقها أحد. مسحتُ دموعى، وهتفت فى حزنٍ: «ليس هو.. ليس هو». ومثل كل صباحٍ.. غادرتُ الشرفةَ، وأنا أرددُ حزينةً خلف الصوتِ الذى ما ملّ لحظةً أن يهتفَ داخلى: «غدًا.. سوف يمرّ الحبُّ من حيِّنا».

المصرى اليوم