مباشر - سالي إسماعيل: تظل الأسواق المالية والاقتصاد العالمي في خضم صدمة دولية حقيقية لا تتوقف عند الحدود، كما لا يمكن ترويضها بالكلمات أو المفاوضات: "كوفيد-19".
وتوضح رؤية تحليلية نشرتها مدونة البنك الهولندي "آي.إن.جي" لكبير الاقتصاديين في منطقة اليورو ورئيس القسم العالمي لماكرو الأبحاث في البنك "كارستن برزيسكي"، الخطر غير المعروف وغير المسبوق لفيروس كورونا.
استمرارية حالة عدم اليقين
يأتي اندلاع الفيروس الجديد في وقت كان الاقتصاد العالمي على وشك اكتساب الزخم مرة أخرى على خلفية المرحلة الأولى من الاتفاق التجاري بين الولايات المتحدة والصين ونقطة تحول في دورة المخزونات إضافة إلى الوصول إلى نهاية الهبوط في النشاط الصناعي العالمي.
وبدلاً من ذلك، فإن كورونا بالإضافة إلى تأثيره على الاقتصادات والأسواق يُشكل خطراً غير معروف وغير مسبوق، كما أن التوقعات الاقتصادية محاطة بحالة من عدم اليقين أكثر من المعتاد.
ولا يزال هناك العديد من التساؤلات بدون إجابة فيما يتعلق بالطبيعة الحقيقية للفيروس وانتشاره وتأثيره على صحة الإنسان.
ولأول مرة، لم يكن الاقتصاديون هم الفئة التي تعاني من أجل التوصل إلى تحليل مشترك وشامل لمعضلة، بل كذلك علماء الفيروسات.
وتختلف طرق تسجيل عدد الأشخاص المصابين بالفيروس عبر الدول، كما تتوقف على رغبة الأفراد وقدرتهم على الذهاب حقاً إلى الطبيب أو المستشفى.
وكذلك تشير حقيقة أن البشر يمكن أن يحملون الفيروس بدون أن تظهر عليهم أعراض إلى أن العدد الفعلي للمصابين يمكن أن يكون أعلى بكثير من تلك المبلغ عنها.
ومن المستحيل تقريباً التكهن بشكل موثوق بالتأثير الاقتصادي لحدث غير مسبوق ولا يزال آخذ في التطور، لكن مع ذلك يجب علينا تقديم بعض التوقعات المستقبلية.
صدمة العرض والطلب
وفي الآونة الأخيرة، كشفت مؤسسات عديدة عن تقديرات حول مدى الضرر الذي يمكن أن يلحقه الفيروس بالاقتصاد العالمي.
وتقدم منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، على سبيل المثال، اثنين من السيناريوهات في هذا الصدد، أحدهما معتدل والذي يخفض تقديرات نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.5 بالمائة والآخر سيناريو الخطر، حيث ينتشر الفيروس على نطاق أوسع، وبمقتضى ذلك قلص تقديرات النمو العالمي بنحو 1.4 بالمائة.
وفي عام 2006، قام الباحثون في البنك الدولي بدراسة تأثير العديد من موجات الإنفلونزا من الناحية التاريخية، وخلصوا إلى أنه من شأن تفشي الإنفلونزا بشكل معتدل أن يخفض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بأقل من 1 بالمائة، لكن هذه مجرد تقديرات أولية لا أكثر ولا أقل.
ومع ذلك، دعونا لا ننسى أن العالم قد أصبح أكثر تكاملاً منذ ذلك الحين، ما يعني أن أيّ تكهنات تستند إلى التجارب السابقة ينبغي أن تؤخذ بحذر.
وفي واقع الأمر، يوجد في الوقت الحالي تداعيات كبيرة على النشاط الاقتصادي جراء السياسات التي تحاول منع تفشي الكورونا وليس إثر الفيروس نفسه.
ويعتبر هذا التأثير بمثابة مزيج غير مسبوق من صدمة العرض والطلب: صدمة الطلب كما هو موضح، على سبيل المثال، من خلال الهبوط بأكبر وتيرة في التاريخ لمبيعات السيارات في السوق الصيني خلال شهر فبراير/ شباط (تراجع 80 بالمائة على أساس سنوي) إضافة إلى إلغاء الرحلات والإجازات إلى أوروبا أو الولايات المتحدة، أو خوف عام من الناس في كافة دول العالم.
ولكن أيضاً صدمة العرض تكمن في الدور الهام الذي تلعبه الصين في سلاسل التوريد العالمية وتأثير السياسات الوقائية في أوروبا والولايات المتحدة لإبقاء الموظفين في المنزل أو إلغاء اجتماعات العمل.
ولذا، فإن رصد تأثير "كوفيد-19" على سيناريوهات النمو الخاصة بالبنك الهولندي تخضع للتقييم بدلاً من تحليل نهائي أو مثالي، وهو أمر يشبه القيادة في الظلام، ما يعني أهمية الحذر والتقدم خطوة بخطوة.
ويستند "آي.إن.جي" حالياً على فرضية أن انتشار الفيروس سوف يتباطأ في نصف الكرة الشمالي خلال فصل الربيع وأن الاقتصاد العالمي سوف يبدأ في الاستقرار والتعافي التدريحي أثناء أشهر الصيف بصرف النظر عن الفروقات الواضحة بين الدول والمناطق.
مطالبات اتخاذ إجراء
يبدو في الوقت الحالي كما لو أن أيّ تجاوز مفرط في النشاط الاقتصادي، والذي يظهر غالباً بعد الكوارث الطبيعية، لن يتحقق أو على الأقل ليس بنفس الدرجة.
ويذكرنا الاضطراب الأخير في السوق بالأزمة المالية العالمية، كما يشرح سبب وجود الكثير من المطالبات من أجل اتخاذ إجراء منسق.
لماذا ما نجح في الماضي لا يفترض أن ينجح في الوقت الحالي؟، في حين أن وزراء مالية مجموعة الدول السبع أصدروا بياناً بأنهم على استعداد للعمل (وهي عبارة تستخدم في كثير من الأحيان في أوروبا)، فإن بنك الاحتياطي الفيدرالي خفض معدل الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس بعد اجتماع طارئ.
كما أن بعض البنوك المركزية الأخرى كذلك قامت بتيسير سياساتها النقدية بل أن الدول الصغيرة شهدت "هليكوبتر الأموال"، وهي أداة تهدف لطباعة مبالغ كبيرة من الأموال بغرض توزيعها على المستهلكين وتحفيز الاقتصاد.
ومع ذلك، لا تزال البنوك المركزية الكبرى الأخرى مثل البنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا وبنك اليابان واقفة على الهامش على الأقل في الوقت الحالي.
ويعزى ذلك بشكل رئيسي إلى عاملين؛ وهما: أولاً، المساحة المحدودة للغاية للتصرف بالنظر إلى السياسات النقدية التيسيرية للغاية بالفعل والآثار السلبية لأي خطوة محتملة.
أما الأمر الآخر، فيكمن في الوعي بأن أيّ إجراء سياسي يمكن أن يعالج فقط الآثار الاقتصادية وليس الأسباب الجذرية.
وكي أكون صريحاً، لا يمكن أن يكون للتيسير المالي ولا النقدي نفس تأثير اللقاح لمواجهة "كوفيد-19".
الضغوط المتزايدة على البنوك المركزية والحكومات
كلما يصبح التأثير الاقتصادي من فيروس كورونا وإجراءات العزل أكثر وضوحاً، كلما زداد الضغط على البنوك المركزية وقبل كل شيء على الحكومات على الأرجح من أجل التصرف.
وبالإضافة إلى التيسير النقدي وتسهيل شروط الائتمان، هناك كذلك تخفيضات ضريبة القيمة المضافة مؤقتاً، إضافة إلى منح الدولة مساعدات للشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم، ومخططات العمل المدعومة على المدى القصير.
وعلى وجه التحديد، ستكون منطقة اليورو هي مركز جذب الاهتمام الدولي مجدداً، هل سيؤدي فيروس "كوفيد-19" في النهاية إلى حوافز مالية كبيرة والتي تتجاوز بعض المرونة في تفسير القواعد المالية؟ وهل سيواصل المركزي الأوروبي بقيادة كريستين لاجارد سياسة ماريو دراجي "القيام بكل ما يتطلبه الأمر" أم أن البنك سيعود إلى عصر "فيم دويسينبيرج" وهو أول من ترأس المركزي الأوروبي، و"جان تريشيه"، وهو رئيس البنك في الفترة من 2003 وحتى 2011، عندما كان الخيار المفضل لدى المركزي الأوروبي هو الانتظار والترقب فحسب؟.