مباشر - سالي إسماعيل: "انقلب الوضع رأساً على عقب".. هكذا يمكن تفسير الوضع الحالي داخل عالم البنوك حول العالم، بعدما أصبح المدخر يدفع الثمن والمقترض يحصل على فوائد.
ومن منظور اقتصادي بحث، فإن "الفائدة السالبة"، ليست سياسة جديدة بمعايير العصر الحالي، لكنها باتت تجتذب أهمية خاصة في الآونة الأخيرة مع تداعيات مختلفة سواء على الاقتصاد أو الأسواق أو حتى صغار المدخرين.
وتعزز البنوك المركزية حول العالم سياسة "الأموال الرخيصة" عبر جعل تكاليف الاقتراض رخيصة للغاية من أجل تحفيز الإنفاق وتعزيز الاستثمارات وبالتبعية دعم الاقتصاد.
ويتزايد القلق بشكل ملحوظ في الأعوام الأخيرة من أن تقوم البنوك التي تعاني ضعفاً في الربحية بتمرير هذه الفائدة السالبة إلى العملاء، وهو ما حدث في بعض الحالات بالفعل، كما أن هناك مخاوف خاصة حول ارتفاع أسعار الأصول التي يعتقد العديد من المحللين أنها مقومة بأكثر من قيمتها.
ومن الناحية التاريخية، كان الأفراد يقدمون قروضاً إلى الحكومة (من خلال شراء السندات الحكومية)، بدلاً من إنفاقها، على أساس وعود باسترداد تلك الأموال بفائدة تختلف على حسب آجل السداد.
لكن الأزمة المالية العالمية التي وقعت في عام 2008 غيرت قواعد اللعبة، ودفعت بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وبنك إنجلترا وبنك اليابان والبنك المركزي الأوروبي إلى خفض معدلات الفائدة إلى مستويات قريبة من الصفر لتحفيز الاقتصاد، قبل أن يتحول في بعض الدول إلى النطاق السالب في عام 2014.
وفي مخالفة لكلاسيكيات المنطق الاقتصادي، زاد الإقبال على السندات التي تمنح عوائد سالبة (دون الصفر)، وهو ما يعني ببساطة أن يقوم المستثمر بإقراض أمواله للحكومة على أن يستردها في موعد استحقاقها لكن بقيمة أقل من المدفوع سابقاً.
لكن السؤال الذي يطرحه "أوليفر برينان" كبير الخبراء الاستراتيجيون في شركة الأبحاث "تي.إس لومبارد" يكمن في: لماذا تشتري أصل يضمن لك خسارة بعض أموالك؟
ويؤكد "برينان" أن هذا الوضع غير منطقي على الإطلاق، لكن عواقب هذا الوضع من المرجح أن نراها فقط عندما يكون هناك أزمة.
وبلغ حجم سوق السندات سالبة العائد بنهاية العام الماضي 13 تريليون دولار بعد أن وصل لمستوى قياسي عند مستوى 17 تريليون دولار في أغسطس/آب الماضي.
وفي المقابل، فإن قيمة سوق السندات الحكومي ذات عوائد أقل من الصفر في منطقة اليورو التي تضم 19 دولة، تبلغ 4 تريليونات يورو، كما يوجد المزيد من التريليونات بعوائد سالبة في سوق السندات الحكومية اليابانية وغيرها الكثير حول العالم.
وتؤرق مشكلة أخرى البنوك الألمانية، وهي عدم وجود مساحات كافية لتخزين أموال المودعين بسبب الفائدة السالبة التي يفرضها البنك المركزي، وفقاً لتقرير حديث نشرته وكالة بلومبرج الأمريكية.
وبحسب بيانات البنك المركزي الألماني، فإن حجم حيازة السيولة الفعلي للبنوك الألمانية ارتفع إلى مستوى قياسي عند 43.4 مليار يورو (48 مليار دولار) في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وهو تقريباً ثلاثة أمثال الكمية التي كانت موجودة بنهاية مايو/آيار عام 2014، وهو الشهر السابق لتطبيق سياسة فرض رسوماً على الودائع.
وبعيداً عن منطقة اليورو، تطبق دول أخرى مثل الدنمارك والسويد (التي رفعت الفائدة مؤخراً لمستوى صفر) واليابان وسويسرا نظام معدلات الفائدة السالبة؛ وسط مساعي تحفيز النمو الاقتصادي ودفع عجلة الاقتصاد للدوران مجدداً وتعزيز معدلات التضخم الضعيفة.
ويستبعد محافظ البنك المركزي في النمسا "روبرت هولتسمان" أن يتمكن المركزي الأوروبي من رفع معدل الفائدة إلى النطاق الإيجابي في العام الحالي وسط المخاوف بشأن مستقبل العلاقات بين المملكة المتحدة والكتلة بعد البريكست.
وفي اتجاه غير مألوف، يطالب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بخفض معدلات الفائدة في الولايات المتحدة داخل النطاق السالب حتى تكون هناك ميزة تنافسية عادلة مع الاتحاد الأوروبي واليابان.
وصرح الرئيس الأمريكي خلال مشاركته في منتدى دافوس الاقتصادي هذا العام، بأن معدلات الفائدة السالبة المطبقة في منطقة اليورو يمكن الاعتياد عليها بشكل سريع للغاية في الولايات المتحدة.
ويهاجم ترامب بشكل متكرر رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي "جيروم باول" بسبب معدلات الفائدة التي يعتقد أنها مرتفعة للغاية.
وقبل رحيل "ماريو دراجي" في العام الماضي، قلص البنك المركزي الأوروبي معدل الفائدة على الودائع أكثر داخل النطاق السالب إلى -0.5 بالمائة.
وفي مشهد يحدث للمرة الأولى في 5 أعوام، رفع المركزي السويدي بنهاية العام الماضي معدل الفائدة من النطاق السالب (-0.25 بالمائة) إلى الصفر، وذلك مع اقتراب معدل التضخم من مستهدف البنك المحدد عند 2 بالمائة.
وفي سياق الانخراط في لعبة "الفائدة السالبة"، يمكن كذلك لبعض مشتري المنازل حالياً الاستفادة من هذا الوضع، حيث يقدم بنك "جيسكي" في الدنمارك فائدة -0.5 بالمائة على قروض الرهن العقاري التي يحل موعد استحقاقها بعد 10 أعوام.
ويعقب هذه الخطوة، إعلان بنك نورديا في الدنمارك أنه سيبدأ طرح سندات للرهن العقاري لآجل 20 عاماً بفائدة صفرية لأول مرة على الإطلاق.
ولا تعد الدنمارك تجربة فريدة في هذا الشأن، حيث أن معدلات الرهن العقاري ليست أعلى بكثير من الصفر في ألمانيا، حيث يمكن أن يبلغ الرهن العقاري لمدة 10 أعوام، على سبيل المثال، مع دفعة أولى كبيرة فائدة بنسبة 0.7 بالمائة فقط.
وعلى صعيد التحديات، خفضت وكالة "موديز" لخدمات المستثمرين النظرة المستقبلية للبنوك العالمية خلال عام 2020 إلى سلبية بدلاً من مستقرة وسط مخاطر سلبية من بينها معدلات الفائدة السالبة.
وتعتقد الوكالة أن استخدام الفائدة السالبة يضغط على ربحية البنوك مع الإشارة إلى أن بعض المصارف تواجه تحديات خاصة فيما يتعلق بتمرير تلك الفائدة الأقل من الصفر إلى المودعين.
كما يرى "كيس فان ديجكويزن" الرئيس التنفيذي لبنك "إيه.بي.إن.آرمو" أن معدلات الفائدة السالبة تجعل البنوك تتكبد رسوماً على الودائع لدى البنك المركزي، مما يجعل من الصعب على المصارف الأوروبية منافسة نظيرتها في الولايات المتحدة.
ومع حقيقة وجود علاقة عكسية بين الأسعار والعوائد، فإن العائد على سندات الحكومة اليونانية لآجل 10 سنوات تراجع دون 1 بالمائة لأول مرة على الإطلاق مع تحسن الأداء الاقتصادي للدولة التي تعرضت لأزمات مالية في الماضي كما رُفع التصنيف الائتماني للبلاد.
ويأتي الهبوط في عوائد السندات الحكومية وسط بحث المستثمرين عن سندات تمنح عوائد أعلى من الصفر في منطقة اليورو، حيث أن العوائد على الديون الألمانية تقع داخل النطاق الأحمر.
ولم يسلم المدخرين من هذا الاتجاه السائد، حيث تسعى البنوك إلى تمرير الفائدة السالبة إلى كبار وصغار المدخرين على حد سواء وسط تسجيل تلك المصارف خسائر أو تعرضها لضغوط شديدة من أجل تحقيق ربحية.
وفي الشهر الجاري، قرر البنك الهولندي "رابوبنك" فرض فائدة سالبة على حسابات العملاء الأفراد أو الشركات التي تضم مدخرات تتجاوز مليون يورو وذلك بنسبة 0.5 بالمائة.
ويقوم بالفعل اثنين من البنوك الهولندية، وهما "آي.إن.جي" و"إيه.إن.بي"، بتطبيق فائدة سالبة على حسابات التوفير التي تبلغ مليون يورو فأكثر و2.5 مليون يورو فأكثر على الترتيب.
وفي عام 2019، قال "جايسك بنك" إنه سوف يفرض رسوماً على المودعين الدنماركيين الذين يمتلكون 7.5 مليون كرونة (1.1 مليون دولار) أو أكثر في حساباتهم الشخصية.
كما أن بنك "يو.بي.إس" أعلن في ذلك الحين أنه سيقوم بفرض رسوماً سنوية بنحو 0.6 بالمائة على الحسابات التي تبلغ قيمتها 500 ألف يورو.
وتدفع هذه البيئة من معدلات الفائدة المنخفضة للغاية، أسواق الأسهم إلى تسجيل مستويات قياسية، حيث يؤدي هبوط عوائد الأصول الآمنة إلى البحث عن المكاسب في أماكن أخرى حتى وإن كانت تحمل في طياتها بعض المخاطرة.
ويعتبر تكالب المدخرين على سحب أموالهم واستثمارها في الأصول الأكثر خطراً بمثابة جزء من من آثار تحفيز البنوك المركزية، لكن يحتمل أيضاً أن تكون هذه المستويات القياسية التي تسجلها الأسهم العالمية واحدة تلو الأخرى ذات عواقب وخيمة وتشهد انهياراً مؤلماً.
ومع ذلك، فإن مثل هذه التداعيات المؤلمة المحتملة لم تحدث، حيث أن السوق الصاعد الحالي في الأسهم الأمريكية يصل عامه الـ11 يوم 9 مارس/آذار.
وعلى صعيد مماثل هناك مخاوف بشأن التقاعد، حيث أن بيئة معدلات الفائدة المنخفضة أو حتى السالبة تثير العديد من التساؤلات حول كيفية الحفاظ على الثروة خاصةً لأولئك الذين يحاولون الإدخار للتقاعد.
وفي واقع الأمر، فإن صناديق المعاشات التقاعدية مجبرة على الاستمرار في شراء السندات بسبب متطلبات السيولة، وهي أحد الأسباب وراء تضخم الديون سالبة العائد في كافة أنحاء العالم.
وقال مستشار الاقتصاد العالمي في شركة إدارة الأصول بيمكو "يواشين فيلس" في تعليقات نقلتها شبكة "سي.إن.بي.سي" الأمريكية إن هناك عوامل مزمنة مثل التركيبة السكانية والتكنولوجيا تؤدي لانخفاض معدلات الفائدة.
وما بين مؤيد ومعارض لا يزال الجدل قائماً، حيث حذر رئيس "دويتشه بنك" من أن معدلات الفائدة دون الصفر تُعد بمثابة رياح عكسية أمام البنوك الأوروبية، قائلاً: "الفائدة السالبة تُشكل عبئاً على النظام المالي"، لكنه في الوقت نفسه أكد في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أن المصرف الألماني لن يمرر تلك الفائدة إلى العملاء.
وعلى صعيد آخر، تؤكد رئيسة المركزي الأوروبي "كريستين لاجارد" أن الفائدة السالبة ليست وراء ارتفاع أسعار المنازل أو ضعف ربحية البنوك في أوروبا، مشيرة إلى أن صانعي السياسة النقدية سوف يدرسون بعناية هذه الآثار الجانبية.
في حين يؤيد أستاذ الاقتصاد في جامعة روتشستر والرئيس السابق لبنك الاحتياطي الفيدرالي في ولاية مينيابوليس "نارايانا كوتشرلاكوتا"، معدلات الفائدة السالبة، قائلاً: "أنا من أشد المعجبين بالمعدلات السالبة ليس في هذا التوقيت فقط لكنها بالتأكيد شيء يجب أن نحتفظ به في مجموعة الأدوات".