مهّد النقص في العمال الذكور الطريق لمشاركة النساء في الصناعات الثقيلة، مثل أعمال البناء وإنشاء السكك الحديدية، مدفوعة بمبادرات التنمية الريفية.
واعتاد شانغ جيانلي على توظيف العمال الذكور فقط في مواقع البناء الخاصة به في جميع أنحاء تشيفنغ بمنغوليا الداخلية، حيث كان يستثني النساء من إعلانات الوظائف عبر الإنترنت، إلا أن شانغ بدأ يغير نهجه مع تزايد العمل، وعدم وجود عمالة كافية من الذكور لتلبية الطلب.
ويعرض شانغ أجرًا يوميًا يبلغ حوالي 160 يوانًا ما يعادل 25 دولارًا أمريكيًا، للعاملات لنقل الأخشاب والطوب، أي أقل بحوالي الخُمس من أجور أقرانهن من الرجال، وما يصل إلى 200 يوان يوميًا للوظائف العاجلة، وتنص إعلاناته على أنه يمكن لكل من الرجال والنساء العمل.
وقال شانغ عن النساء اللواتي وظفهن، ومعظمهن في الأربعينيات والخمسينيات من العمر: ”إنهن يعملن بجدٍ ولا يشكين“، وفقًا لصحيفة ”وول ستريت جورنال“ الأمريكية.
وتتولى النساء الصينيات بشكل متزايد وظائف العمل الشاق التي طالما هيمن عليها الرجال في قطاع البناء، والنقل، وقطاعات أخرى، متعارضة مع الأدوار التقليدية للجنسين في القوى العاملة الضخمة في الصين.
ودفع نقص العمالة الناجم عن انخفاض معدلات المواليد وشيخوخة السكان، أرباب العمل إلى توظيف المزيد من النساء لبناء الأبراج الشاهقة، وصيانة خطوط السكك الحديدية، وقيادة الشاحنات، من بين أدوار أخرى.
ويُعد إقبال أصحاب العمل على توظيف النساء اللواتي يمثلن ثلث عمال الريف في الصين، البالغ عددهم 286 مليونًا خارج قطاع الزراعة، تحولًا ديموغرافيًا هائلًا في البلاد، حيث تعمل النساء على سد النقص في الأيدي العاملة، على الرغم من حصولهن على أجور أقل بكثير من نظرائهن من الرجال، ليتمكنّ من العثور على وظائف أقرب إلى المنزل ورعاية الآباء المسنين، كما بدأت المرأة الصينية تكتسب مرونة في العمل وحرية مالية.
وخلال العشرينات وأوائل الثلاثينات من عمرها، قامت ”لي جويوان“ بتجميع أغطية المصابيح لمدة 10 ساعات يوميًا في غرفة مصنع ساخنة في مدينة دونغقوان جنوب الصين، لكن بعد عقد من الزمان، احتاج ابنها وأصهارها جميعًا إلى عودتها هي وزوجها.
وعادت ”جويوان“ إلى منزل العائلة في مسقط رأسها، وهي قرية خارج يويانغ، المدينة التي يبلغ عدد سكانها 5 ملايين نسمة، للعمل في البناء مع زوجها.
وبات روتين اليوم الصيفي العادي، يتضمن نقل ”جويوان“ لما يقرب من 100 رطل من النوافذ والأبواب المصنوعة من الألومنيوم إلى ارتفاع 3 أدوار في الحرارة والرطوبة الشديدة، ولكن هذا العمل يجني لها المزيد من المال.
وقالت ”جويوان“، البالغة من العمر 48 عامًا: ”كنت أشعر بالاحتقار وأنا أعمل بعيدًا عن منزلي ودون تعليم أو مهارات، ولكن الآن على الأقل يمكنني رعاية عائلتي“.
وخلال السنوات الأخيرة، أدت مبادرة الرئيس ”شي جين بينغ“ لإحياء المناطق الريفية الشاسعة في البلاد إلى خلق فرص جديدة للفقراء في الصين، مما سمح للعمال الذين اعتادوا السفر آلاف الأميال للحصول على وظائف في المدن الكبيرة، والعمل بالقرب من منازلهم.
ويعتمد جزء كبير من حملة الرئيس شي على الدفعات النقدية والحوافز، مثل: القروض الأقل فائدة، والإعانات المالية للشركات في المناطق الريفية.
مخاطر متزايدة
في حين لا تزال غالبية النساء الصينيات يعملن في مجال الخدمات، مثل البيع بالتجزئة والمطاعم، يقول الباحثون إن اللواتي ينتقلن إلى وظائف في البناء والنقل، التي كانت في السابق مقتصرة على الذكور فقط، يتعرضن لمخاطر متزايدة للإصابة، والتحرش الجنسي.
ومنذ سنوات يتقلص إجمالي القوى العاملة في الصين، الأمر الذي يرجع جزئيًا إلى القيود التي فرضتها الحكومة على حجم الأسرة، إذ أظهرت بيانات التعداد أن نسبة سكان البلاد في سن العمل، يتراوح بين 15 و59 عامًا، حيثُ انخفضت إلى 63% في العام 2020، من أصل 70% كانت قبل عقد من الزمن.
من جانبها تحاول بكين توسيع القوة العاملة من خلال تشجيع الأزواج على إنجاب المزيد من الأطفال، وتفكر في تأجيل سن التقاعد.
وتعمل حوالي 9.5 مليون امرأة في قطاع البناء، وهو ما يشكل نسبة 14% من جميع عمال البناء في العام 2018، وفقًا لأحدث البيانات الصادرة عن المكتب الوطني للإحصاء.
ويقول الباحثون إن البيانات الرسمية قد تكون أقل من العدد الفعلي، لأن العديد من النساء يتم توظيفهن من خلال وكالات مؤقتة ولا يتم اعتبارهن موظفات رسميات.
وقالت سارة سوايدر، عالمة الاجتماع بجامعة واين ستيت، إن قلة من النساء عملن في قطاع البناء عندما زارت الصين لأول مرة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ثم أدى ازدهار قطاع البناء إلى ارتفاع تكاليف العمالة، وجعل العثور على العمال أكثر صعوبة، مما فتح الباب أمام مشاركة النساء.
وقالت سويدار، التي درست مواقع البناء لأكثر من عقد، إنه ”مع استمرار نمو الاقتصاد، لم يتمكنوا من الحصول على عمال شباب أو كبار السن، وحينها بدأوا في توظيف النساء“.
وبينت ”سويدر“ أن وجود النساء في مواقع البناء قد نما بشكل كبير لدرجة أن أصحاب العمل أقاموا مساحات معيشة وحمامات منفصلة جديدة لهن، وبعضهن يتظاهر بالزواج من عامل لتجنب التحرش الجنسي، مؤكدة أنها ”لم تقابل امرأة تحصل على نفس أجر الرجل“.
إلا أن أعباء النساء مضاعفة، فبالإضافة إلى وظائف العمل العادية، مثل نقل الطوب وصنع الأسمنت، تقوم النساء بغسيل الملابس والطهي للعمال الذكور، ويتلقين عمومًا في المتوسط حوالي نصف ما يتقاضاه نظراؤهن من الرجال.
بدورها قالت ييج دونغ، عالمة الاجتماع في جامعة بوفالو، إن أرباب العمل الصينيين، خاصة الشركات المملوكة للدولة في السكك الحديدية والبناء، غالبًا ما يوظفون النساء بشكل غير متناسب كعاملات مؤقتات لأدوار مهمشة، مثل العمل الشاق أو القذر، لتجاوز قوانين العمل، التي تتطلب منهم ضمان الحوافز والسلامة للموظفين الدائمين.
وأشارت دونغ، التي درست أوضاع النساء الصينيات في القوى العاملة، إلى أن العديد من هؤلاء العاملات المؤقتات يفتقرن إلى التدريب على سلامة العمل، مؤكدة أن ”جميع النساء تواجههن معضلة كسب العيش، وتأمين احتياجات الأسرة، لكن العمال الريفيين يتحملون عبئًا أكبر على أكتافهم من غيرهم“.
ووفقًا لتقديرات الباحثين الذين يدرسون قضايا العمل والجنس في الصين، تمثل النساء حوالي ثلث العمال في بعض مواقع البناء في المدن الكبرى، وهو ما يُشكل ارتفاعًا من الصفر تقريبًا في الثمانينيات.
وبحسب مسح شمل أكثر من 6000 عامل بناء في 9 مدن أجرته مجموعة غير ربحية لحقوق العمال في بكين، قبل 8 سنوات فقط، شكلت النساء ما يزيد قليلًا على عُشر العدد الإجمالي، ومع مرور الوقت توسعت أنواع الوظائف التي تؤديها النساء من الطهي، والتنظيف، إلى غربلة الرمال، والتعامل مع الآلات.
الفتيات الحديديات
وفي الولايات المتحدة، تشكل النساء ما يزيد قليلًا على عُشر عمال البناء من النساء، وفقًا لمكتب الولايات المتحدة لإحصاءات العمل.
وتظهر البيانات الأمريكية أن فجوة الأجور بين الجنسين في الولايات المتحدة هي الأصغر في قطاع البناء بين جميع القطاعات، حيث تكسب النساء في المتوسط 94% مما يكسبه الرجال.
ويُظهر مقياس فجوة الأجور بين الجنسين الصادر عن منظمة العمل الدولية في العام 2018 أن النساء في المتوسط يتقاضين أجرًا أقل بحوالي 20% من الرجال، وأن فجوة الأجور في الصين أعلى قليلًا من المتوسط العالمي، حيث تصل إلى 21%، بينما كانت الولايات المتحدة أقل من المتوسط العالمي بنسبة تبلغ 15%.
وأدى نقص التدريب الكافي في مجال السلامة بين العديد من النساء في أدوار العمل الشاق إلى المزيد من النزاعات العمالية، وتم تسجيل ما مجموعه 605 أحكام بين عامي 2015 و2020 تتعلق بعاملات مؤقتات في قطاع البناء في موقع ”تشاينا جد جمنتس أونلاين“، وهي قاعدة بيانات وطنية رسمية لأحكام المحاكم.
وكان هناك 47 حكمًا من ذات النوع بين عامي 2010 و2014، وكان العديد من الدعاوى القضائية حول التعرض للإصابة، فضلًا عن الأجور والعقود.
وقالت إيميلي هونيج، وهي مؤرخة في جامعة كاليفورنيا، إن السنوات الأولى من الحكم الشيوعي، شجع ماو تسي تونغ النساء على الانضمام إلى القوى العاملة للمساعدة في بناء الأمة، وأطلق على العاملات اسم ”الفتيات الحديديات“ في رمز للمساواة خلال حقبة ماو.
إلا أن هذا اللقب أصبح محط سخرية بمجرد أن بدأت الصين تزداد ثراءً بعد وصول دنغ شياو بينغ إلى السلطة، وحينها كان يُعتقد أن أدوار عمل المرأة تتحدد من خلال سماتها البيولوجية والفسيولوجية الفطرية، كما كُتب في مجموعة مقالات منقحة عن القوى العاملة في الصين.
وكتبت هونيج تقول: ”في سياق الإصلاحات الاقتصادية التي أعقبت ماو، جسدت الفتيات الحديديات اعتقادًا بأن الثورة الثقافية تمثل وقتًا من المساواة غير الملائمة في القوى العاملة التي تضر بالتنمية الاقتصادية“.
والآن، يبدو أن توجيهات حقبة ماو قد اكتملت، حيث تغيرت احتياجات العمل مرة أخرى، إذ روجت وسائل الإعلام الحكومية في السنوات الأخيرة لأدوار النساء العاملات كسائقات شاحنات وعاملات بناء، مسلطة الضوء على مساهمتهن في الاقتصاد.
وفي شهر حزيران/يوليو الماضي، استضافت وكالة أنباء ”شينخوا“ الرسمية شو ينغ ينغ، وهي سائقة شاحنة من مقاطعة خبي، حيثُ قالت الوكالة الرسمية في مقطع فيديو إنها وزوجها أوصلا مواد إغاثة إلى مقاطعة هوبي، منشأ فيروس كورونا المستجد، 3 مرات في غضون 9 أيام، العام الماضي، واصفة إياها بنجمة عصر الاعتماد على الذات.
وفي الفيديو، تقول ”شو“ إنها تغسل الملابس في أوقات الراحة حتى يتمكن الزوجان من الظهور بمظهر نظيف أمام الجيران والعائلة بعد عودتهما إلى المنزل.
ومضت قائلة: ”أشعر أن أفضل وضع للمرأة هو الاستقلال الذاتي، والعيش لتصبح شعاعًا من الضوء، يدفّئ الآخرين وينيرها“.
أخبار متعلقة :