ساهمت المرأة الفلسطينية بالكفاح الوطني الفلسطيني وبقوة ودراية فائقة ضد الاحتلال البريطاني والزحف الصهيوني المنظم إلى فلسطين منذ العشرينيات من القرن الماضي، وبرزت أسماء نساء عديدات تقدمن الصفوف في النضال الوطني الفلسطيني بأوجهه المختلفة، وفي مقدمتهن، المقدسية الراحلة زليخة الشهابي.
فبعد احتلال فلسطين وإنشاء إسرائيل في عام 1948 وارتفاع وتيرة مصادرة الأراضي الفلسطينية، بدت مساهمة المرأة الفلسطينية كبيرة في كافة الهبات والانتفاضات الفلسطينية ضد المحتل الصهيوني، فاستشهدت خديجة شواهنة خلال مشاركتها في هبة يوم الأرض عام 1976، كما ساهمت المرأة الفلسطينية في العمل الكفاحي المباشر خلال الانتفاضتين الأولى والثانية؛ وكان دورها ماثلاً من خلال فكرة وترسيخ الاقتصاد المنزلي إبان الانتفاضة الأولى؛ الأمر الذي عززّ صمود المنتفضين وحراكهم اليومي ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي.
بذور العمل الوطني
ظهرت خلال فترة الكفاح الوطني الفلسطيني قامات نسائية فلسطينية داخل فلسطين التاريخية ومناطق اللجوء القريبة والبعيدة في مجالات الأدب والفن والطب والقانون والهندسة، ناهيك عن إنشاء هيئات نسوية رفدت العمل الفلسطيني المقاوم بشكل جلي وكبير، ومن بين هؤلاء الراحلة زليخة الشهابي رائدة الكفاح الفلسطيني، حيث ولدت في القدس عام 1901 وتوفيت في عام 1992؛ وقد انطلقت الراحلة زليخة الشهابي في العمل الوطني في خضم الأحداث التي تلت هبة البُراق، فحضرت المؤتمر النسائي العربي الفلسطيني، وكان أول اجتماع نسائي فلسطيني سياسي عام، في تشرين الأول/ أكتوبر 1929 في القدس، شاركت فيه ثلاثمائة سيدة للتداول في الأوضاع السياسية، وأصدرن مذكرة شرحن فيها أسباب الثورة ومطالب الشعب، وانتخبن وفداً لمقابلة المندوب السامي، وكانت في عداد الوفد الذي قدّم إليه المذكرة، وألقت أمامه متيل مغنم كلمة بالإنكليزية وطرب عبد الهادي بالعربية.
ولما عاد الوفد إلى النساء المجتمعات، انطلقت التظاهرة النسائية الضخمة في مائة سيارة تجوب شوارع العاصمة وهن يطلقن الهتافات وسط حماس شعبي كبير. وأسست في القدس مع رفيقات لها "جمعية السيدات العربيات" تجاوباً مع قرارات المؤتمر النسائي الأول، كذلك قامت النساء بتأسيس الجمعيات المشابهة في معظم المدن، وعُرفت هذه الجمعيات أيضاً باسم "لجان السيدات العربيات"، وسوف تُعرف لاحقاً بالاتحادات.
نظمت مع ميليا السكاكيني حملة مجانية لتعليم الفتيات مبادئ القراءة والكتابة، كما أقامت "مدرسة الدوحة" وكانت من المدارس المشهود لها بحسن رعاية الصغيرات تعليمياً وصحياً. وقامت من خلال "لجان السيدات العربيات" بدور بارز في مرحلة الإضراب والثورة الكبرى (1936ـ 1939)، فكانت صاحبة المبادرة بالذهاب إلى المحاكم لحضور جلسات محاكمة الثوار المعتقلين، ومعها عدد من السيدات، وذلك من أجل رفع معنوياتهم وإشعار السلطات بأن الشعب يقف إلى جانب هؤلاء الأبطال. وكانت في طليعة الوفد الفلسطيني النسائي من سبع وعشرين سيدة للمشاركة في "المؤتمر النسائي الشرقي"، الذي دعت إليه السيدة هدى شعراوي زعيمة الحركة النسائية بمصر، لنصرة فلسطين وقضيتها.
تم عقد المؤتمر بالقاهرة في تشرين الأول/ أكتوبر 1938 بحضور وفود من الأقطار العربية ضمت أكبر مجموعة من السيدات العربيات الرائدات في العمل الاجتماعي والوطني. وكانت فلسطين محور هذا المؤتمر النسائي العربي الأول، فألقت كلمتها باسم "جمعية السيدات العربيات" في القدس، وتحدثت عن تاريخ القضية والسياسة البريطانية. وحين انتخب المؤتمر وكيلات للسيدة شعراوي من كل وفد، تم انتخابها والسيدة وحيدة الخالدي من الوفد الفلسطيني.
في ختام المؤتمر دُعيت لإلقاء كلمة فلسطين، فشكرت الجميع وختمت بقولها: "سنعود مقتنعات بأن أهل فلسطين ليسوا وحيدين في ميدان الجهاد المقدس لتخليص بلادهم من المحتل البريطاني". وعادت إلى القدس وباشرت بتنفيذ اقتراح السيدة هدى شعراوي بتوحيد العمل النسائي العربي تحت اسم واحد هو "الاتحاد النسائي العربي"، فأعلنت حل "جمعية السيدات العربيات" في القدس وقيام "الاتحاد النسائي العربي الفلسطيني".
النشاط المجتمعي
لم ينحصر نضال زليخة الشهابي في الإطار السياسي المباشر فقط، بل ساهمت في خدمات عدة على صعيد الخدمات الصحية والمجتمعية، من خلال "الاتحاد النسائي" في القدس، حيث أنشأت لجنة إسعاف ميدانية لإسعاف الجرحى؛ كما أنشأت مستوصفاً لمعالجة المعوزين والتطعيم ضد الأمراض السارية والمعدية؛ أسست مستوصفاً طبيّاً للعناية بالحوامل ومركزاً لرعاية الأطفال؛ ساهمت بتأمين المأوى للأيتام فدفع الاتحاد نفقات تعليم عشرات الأيتام في دار الأيتام الإسلامية؛ أوجدت منتجعاً شتوياً في أريحا للنقاهة وبيتاً للنساء المعوزات. أما الصورة التي التصقت عنها بالذاكرة الشعبية فهي أنها المرأة التي تزور السجون والمعتقلات مشجعة لا مواسية، والتي تحمل الهدايا الرمزية للمعتقلين السياسيين لإشعارهم بأن الشعب معهم. وذهبت في نشاطها المجتمعي إلى أبعد من ذلك، فاهتمت بالشؤون الرياضية، فأسس الاتحاد النسائي بإشرافها نادياً رياضياً له لجنته التنفيذية ونشاطه الخاص وملعبا فسيح الأرجاء، وعندما عقد الاتحاد في 16 تموز/ يوليو 1946 مؤتمراً حضرته أعداد كبيرة من السيدات العربيات من مختلف العواصم، فقد خفقت أعلام بلدانهن على جوانب الملعب.
أما النشاط الأبرز فكان تعليم الفتيات الفلسطينيات صناعة الأزهار، ولأول مرة ابتدأت الصبايا ينتجن بأياديهن الأزهار الاصطناعية، وكانت زليخة الشهابي تقوم معهن بهذا العمل برغبة وسعادة، وتقوم معهن بصنع أنواع من "الكريمات" للتجميل، وقد درج الاتحاد على إقامة أسواق خيرية لبيع المنتوجات على أنواعها وصرف الريع على المشاريع الخيرية.
وبسبب نشاطها السياسي والاجتماعي اللافت؛ كانت زليخة الشهابي من أوائل الذين قامت دولة الاحتلال الصهيوني بإبعادهم إلى الأردن في أعقاب احتلال إسرائيل للضفة الغربية بما فيها الجزء الشرقي من مدينة القدس عام 1967، غير أن تدخل عدة دول والأمم المتحدة فرض على إسرائيل السماح لها بالعودة ومزاولة عملها كرئيسة للاتحاد النسائي.
أهمية الدور النضالي للمرأة الفلسطينية
بعد الاطلالة على السيرة النضالية للراحلة زليخة الشهابي كرائدة وإحدى رموز الكفاح الوطني الفلسطيني، لابد من الإشارة إلى أن المرأة الفلسطينية واجهت على مدار سنوات الكفاح الفلسطيني ما واجهه أبناء الشعب الفلسطيني كافة منذ الانتداب البريطاني حتى الاحتلال الإسرائيلي من تشريد وتهجير ونزوح، وكل واحدة من نساء فلسطين اختارت شكلا من أشكال المقاومة لتكون خير سند للرجل وصانعة لرجال المستقبل في آن.
وإضافة إلى استشهاد المئات من النساء الفلسطينيات منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965، وخلال الانتفاضتين؛ عانت كثيراً من عمليات الاعتقال والملاحقة، وفي هذا السياق، تكتسب تجربة الحركة النسوية الأسيرة في سجون الاحتلال الإسرائيلي صفة مميزة، وإن تداخلت إلى حد كبير في تجربتها مع تجربة الحركة الفلسطينية في شكل عام. فهي أكثر ألماً ومعاناة، وتحمل في خصوصيتها مدى النضج الوطني في المجتمع الفلسطيني، إذ شاركت وتشارك المرأة بدورها النضالي إلى جانب الرجل في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وكذلك في نضالات الحركة الأسيرة .
وثمة شهيدات وجريحات وأسيرات وأمهات ثائرات فلسطينيات قدمن الكثير لفلسطين على مذبح الحرية والتحرير والعودة، ومنهن: الشهيدة شادية أبوغزالة، والشهيدة رجاء أبوعماشة، والشهيدة دلال المغربي، وشهيدة يوم الأرض في الثلاثين من آذار/ مارس 1976 خديجة شواهنة.