كتب : حازم دياب: منذ 21 دقيقة
حين أراد التتار أن يكسروا شوكة العراق، ألقوا بالكتب فى نهر الفرات، ومشوا بأقدامهم وجيشهم عليها، وحين هاجم بعض المسيحيين المتعصبين الفيلسوفة هيباتيا، حطموا الكتب وهدموا مكتبة الإسكندرية، ولم يختلف الأمر كثيراً عن غرناطة، فالإسبان المسلمون الذين أرادوا حفظ تاريخهم من الضياع صانوا كتبهم فى توابيت ودفنوها تحت الأرض، فأمة بلا وثائق ولا كتب أمة بلا ماضٍ، وعبث بالوثائق ودارها عبث بتاريخ ممتد عبر سنوات.
هكذا فكر محمد على والى مصر، فى عام 1828، فى تأسيس مكان يحفظ السجلات والوثائق الخاصة بالحكم، كى لا يضيع التاريخ، وليعرف الخلف ما حدث فى زمن السلف، خصوصا بعد حادثة وقعت تسببت فى ضياع مجموعة من الوثائق، وتعود جذور الحادثة حين ثار عليه الجنود الأرناؤوط بعد أن خفض رواتبهم، فاضطر إلى الهرب والإقامة بالقلعة؛ فنهبت داره التى كانت بالأزبكية، وفقدت الكثير من المستندات، ومن بينها وثيقة المعاهدة التى وقعها مع الجنرال فريزر قائد الحملة المشهورة باسمه. وكان الكتخدا، نائب محمد على، يحتفظ فى ديوانه بكميات كبيرة من السجلات والوثائق، وحدث أن شب حريق فى ديوان الكتخدا فى 18 من يونيو 1828؛ فأتى على ما كان فيه من سجلات ووثائق، لذا سارع الوالى محمد على بتأسيس مكان يحفظ الوثائق سماه «الدفتر خانة» وكان موجودا فى قلعته إمعاناً فى التأمين، لجمع نتاج أنشطة أجهزة الدولة وحفظها. وبتعاقب السنين باتت تلك السجلات وثائق تاريخية يُرجَع إليها، وتؤلَّف حولها الكتب، مثلما فعل المؤرخ خالد فهمى فى كتابه «كل رجال الباشا» حين تحدث عن كيفية تكوين جيش محمد على، واستخدامه فى الحروب، مستخدماً فى ذلك الوثائق الموجودة بدار الكتب والوثائق.
المكان بلا لوحات إرشادية وممنوع التصوير أو الاطلاع على الوثائق بأمر الوزير علاء عبدالعزيز
وفى عام 1870، رأى ناظر المعارف وقتذاك على باشا مبارك، أن هناك ضرورة ملحة لأن يكون هناك مكان يحوى الكتب أيضاً بجانب دار للوثائق، لذا قرر تأسيس الكتب خانة الخديوية المصرية، مستغلاً الطابق الأرضى بسراى الأمير مصطفى فاضل شقيق الخديوى إسماعيل، بدرب الجماميز لأجل «تجميع المخطوطات النفيسة مما حبسه السلاطين والأمراء والعلماء والمؤلفون على المساجد والأضرحة ومعاهد العلم».
وحين بدأت الكتب والوثائق تزداد وتضيق على القلعة والكتب خانة، تقرر نقل المحتويات إلى الدور الأول لدار الكتب والآثار العربية، المعروف بالمتحف الإسلامى حالياً بباب الخلق، وانتقلت بعض الوثائق للحفظ فى قصر عابدين، ولما قامت ثورة الضباط فى عام 1952، كانت هناك خشية من إخفاء بعض الوثائق الملكية، فجرى اتخاذ قرار بإنشاء «دار الوثائق القومية» حيث أنشئت بموجب القانون 356 لسنة 1954، الذى حدد وظيفتها فى جمع وحفظ الوثائق، ونقلت الدار لموقعها الحالى بمنطقة رملة بولاق الكائنة على كورنيش النيل عام 1990، وصدر قرار لرئيس الجمهورية رقم 176، لعام 1993، بإنشاء هيئة مستقلة تضم دار الكتب والوثائق القومية، وفصلهما عن الهيئة المصرية العامة للكتاب التى كانت تتبعهما فيما سبق من وقت.
تقع دار الكتب والوثائق على صف يجمع مبانى شاهقة، بين فنادق ووزارات، كلها تطل على نهر النيل، كأن التاريخ يأبى إلا أن يحفظ فى أحضان هبة مصر.
أسسها محمد على بعد واقعة نهب بعض السجلات.. وانتقلت من «عابدين» لكورنيش النيل
ويعد المكان أحد أهم وأقدم أماكن الأرشيف فى العالم بأسره، فبينما أنشئ الأرشيف الوطنى الفرنسى عام 1790، ودار المحفوظات العامة فى لندن عام 1798، أنشئت دار الوثائق بالقاهرة عام 1828، حيث تضم بين ثناياها وثائق باللغات العربية والتركية والإنجليزية والفرنسية والألمانية فضلا عن عدد من الوثائق باللغة الأمهرية، وهذه المجموعات تغطى الفترة من العصر الفاطمى والأيوبى والمملوكى، مرورا بالعصر العثمانى، ووصولا إلى القرنين التاسع عشر والعشرين، كما أن المكان يحتوى على خرائط تختص بالحدود المصرية المختلفة، التى تكفل قانوناً حق مصر فى حلايب وشلاتين وطابا، وتحدد الحدود مع ليبيا، ودول حوض النيل، فى حال وجود قضايا دولية، حسب الدكتورة سكينة فؤاد، لذا فإن المكان اكتسب طابعا يحفظ حق مصر، بجانب مكانته التاريخية.
فى الوقت الحالى، تخضع دار الكتب والوثائق لسياج أمنى شديد، ويوجد وزير الثقافة علاء عبدالعزيز فى الداخل، يمنع تماماً دخول القسم الخاص بالوثائق إلا من قبل موظفى المكان، وحين طلبت «الوطن» مقابلة إعلامية، قال أفراد أمن البوابة إن المنوط بذلك مكتب رئيس مجلس إدارة دار الكتب والوثائق، وحاولت «الوطن» الذهاب إليه لاستخراج تصاريح تطلب التصوير ورؤية الوثائق، قيل لنا إن الوزير يجلس مع كل قيادات الدار فى اجتماعات مغلقة، ويحظر تماما دخول الصحفيين أو المصورين، إلا أن المبنى الخاص بدار الكتب الذى يقع على بعد خطوات من الشق الخاص بالوثائق، جرى الدخول إليه، كباحث.
هناك يجتمع الشيخ الذى ينقب فى أمهات كتب الفقه والسيرة، ويتجاور مع الطالب الذى يرغب فى عمل بحث يتقدم به لأستاذه فى الجامعة، يجلس بجانب شعراء شبان ينقبون فى دواوين قديمة مفهرسة فى الدار، وغائبة عن الوجود فى السوق، مثل ديوان آخر الليل لمحمود درويش.
البحث يكون من خلال أجهزة كمبيوتر جرى فيها فهرسة الكتب الموجودة، طلبت «الوطن» كتاباً عن تاريخ دار الكتب والوثائق، وكان رقمه البحثى «ج 26834»، ورغم مرور ساعة كاملة فإن الموظف الخاص بفهرسة الكتب قال إنه لا يعرف سبباً لعدم جلب الكتاب.
فى بهو الدار صور لأدباء وفنانين أثروا الحياة المصرية، منهم مصطفى لطفى المنفلوطى وتوفيق الحكيم وفؤاد حداد وكامل الشناوى وإبراهيم عبدالقادر المازنى ويحيى حقى وآخرين، تنتصب الصور تبدو كأنها ناظرة للعابرين، تجيز لهم المرور وتشجعهم على القراءة ومعرفة ما فى الكتب.
تبلغ مخطوطات دار الكتب المصرية نحو 57 ألف مخطوطة، كما يوجد نحو 3 آلاف بردية عُثر على بعضها بكوم أشقاو بطما بصعيد مصر، وتتعلق تلك البرديات بعقود الزواج والبيع والإيجار، ويعود تاريخ أقدم البرديات الموجودة بالمكان إلى عام 705 ميلادية، وتضم مجموعة من الوثائق الرسمية التى تتمثل فى حجج الوقف ووثائق الوزارات المختلفة وسجلات المحاكم ومجموعة النقود العربية وغيرها مما يعود إليه الباحثون من شتى الجنسيات، ورصدت «الوطن» وجود أحد الدارسين بالأزهر، وهو مواطن أندونيسى جاء للمكان للبحث عن كتب لعالم النحو سيبويه.
لا يوجد فى الأدوار المختلفة أى لوحات إرشادية، إذ لا يوجد إلا رقم الدور فى مطلعه، وعلى الزائر أن يكتشف قاعات الأمم المتحدة والمخطوطات والإنسانيات ونجيب محفوظ بنفسه، يوجد فى الدور الأرضى للمكان مجلات المسرح والإبداع، كما يحتوى على أرشيف للجرائد.
تحوى الدار 57 ألف مخطوطة و3 آلاف بردية ترجع أقدمها إلى عام 705 ميلادية
فى الدور الثانى، توجد دوريات قديمة، إحداها تعود لثورة 19، حيث يقعد سعد زغلول بطربوشه المميز مبتسماً فى حبور، وأخرى رياضية تخص الألعاب الأولمبية وعليها صورة للملك فؤاد الأول فى عام 1923، ومكتوب عليها: «لقد نهضت الألعاب الرياضية فى عهد جلالته إلى درجة التفوق التى نشاهدها اليوم بفضل عنايته وتشجيعه لها، والأخذ بناصيتها، ولنا أمل كبير فى أن مملكته ستنال بعطفه هذا عليها تفوقاً فى الألعاب الأولمبية بباريس 1924، حقق الله الأمانى وجعله عزة فخر لتاج مصر».
أخبار متعلقة:
الحدود ومحاضر البرلمان وتقارير «الداخلية».. أشهر الوثائق المصرية
العاملون: وثائق الدار "أمن قومي" وخوفنا عليها يزداد يوماً بعد يوم
رئيس «الكتب والوثائق» السابق: وزير الثقافة ينفذ مخططاً لتدمير الدار.. وقرارته "اعتباطية"
خالد فهمي: سيطرة الإخوان على دار الوثائق تهديد لتراثنا الإسلامى
أخبار متعلقة :