كتب : عبدالفتاح فرج: تصوير : عبدالفتاح فرج منذ 16 دقيقة
فى مكتب واسع وبسيط بالطابق الأول من «شركة كهرباء بولاق الدكرور» المواجهة لمحطة مترو فيصل، يجلس محصلو الكهرباء، يعدون أنفسهم للنزول إلى الشارع ويرتبون فواتير التحصيل حسب «المارش» أى خط السير.
وسط هؤلاء يجلس أسامة إسماعيل، محصل، 35 عاما، ينتهى من إعداد الفواتير ثم يحزم حقيبته ويحملها على كتفه ويسلم على رؤسائه، ويخرج من المكتب متوجها صوب البوابة، يستقل دراجته النارية قاصدا نطاق عمله فى منطقة «أرض اللواء».
المحصلون: «فيه ناس حالها واقف خصوصاً بتوع السياحة.. وترددنا على البيوت خلانا عارفين نبض الشارع»
«الوطن» صاحبت «أسامة» خلال رحلته اليومية واستقلت معه دراجته النارية، حتى وصل إلى مقهى صغير فى شارع جانبى يقصده محصلو الشركة بشكل يومى، «يقتلون» عليه الوقت وينتظرون به حتى تقترب الساعة من الثالثة عصرا، لضمان وجود المشتركين فى المنازل بعد عودتهم من وظائفهم، يتناولون إفطارا جماعيا، ومشروبات دافئة وباردة. ثم يقول أسامة: «تعودنا على القعدة هنا من 15 سنة لأن القهوة دى أمان، وفيه ناس بتيجى تدفع الفواتير لنا هنا» ثم أضاف: «الناس أحيانا بتسيب لنا فلوس الفواتير مع القهوجى لو ملقتناش».
يتجاذب «عم كامل» مع الحاضرين أطراف الحديث، إنه أحد كبار المحصلين، عمره 59 عاما، لم يتبق على خروجه إلى المعاش سوى 4 شهور فقط، وهو يقول: «كل حاجة اتغيرت عن زمان، معدش فيه أدب وأخلاق، خصوصا من بعد الثورة، الكهربا زمان كان سعرها رخيص، والناس كلها كانت بتدفع، يعنى أعلى فاتورة من 20 سنة كانت 50 جنيه بس، لكن بعض أصحاب المحلات بتدفع دلوقتى أكتر من 3 آلاف جنيه».
يعتمد الرجل بذراعيه على المنضدة الحديدية الصغيرة ويضيف: «عدد المشتركين بأرض اللواء كان حوالى 2000 مشترك فى أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، لكنهم الآن 45 ألف مشترك».
بجوار «عم كامل» يجلس محصل آخر اسمه مدحت عبدالمعبود، يضع خوذة قيادة الموتوسيكل الخاص به على كرسى مجاور، ويقول: «مشاكلنا كثيرة، فنحن نعمل بلا حماية من الشركة، ونحن الذين نتحمل قطع التيار الكهربائى، حيث يكيل لنا الأهالى السباب واللعنات، بل يمتنعون عن دفع الفواتير اعتراضا على قطع التيار، إحنا اللى فى وش المدفع».
ويضيف «مدحت»، «ومما زاد الأمور تعقيدا فى الفترة الأخيرة، تنظيم بعض شباب المنطقة حملة لحث المواطنين على الامتناع عن دفع الفواتير، وطبع الشباب منشورات بذلك ووزعوها فى أرجاء المنطقة مكتوبا بها (نداء.. نناشد أهالى أرض اللواء عدم دفع فاتورة الكهرباء لحين انتظام التيار، نظرا لتكرار انقطاع التيار بصورة مستمرة، وقد تسبب ذلك فى ضرر لجميع الناس)».
وبشىء من الدهشة، يتابع «مدحت»: «والخطير فى الأمر أن بعض المشتركين استجابوا لهم، دا فيه واحد أخد منى الفلوس بعد ما دفعها لما أبوه كلمه وقاله ما تدفعش».
ويمر الوقت بسرعة، وينطلق كل منهم إلى الشوارع التى تقع فى نطاق عمله، عندما تقترب الساعة الثالثة عصرا، فينهض أسامة إسماعيل ليتوجه إلى شارع ترعة الزمر، حيث يعرفه الجميع تقريبا، وعلى الرغم من أنه مقيم بمنطقة «بشتيل» شمال الجيزة فإنه معروف لدى معظم الأهالى هنا، إذ أخذوا يحيونه لدى مروره عليهم.
وأثناء سيرنا قال إنه يعمل بأرض اللواء منذ 6 سنوات، وهو ما ساعده على تكوين صداقات عديدة، وبحكم الخبرة أصبح على دراية كبيرة بالأشخاص الذين يدفعون بسهولة وبالآخرين المماطلين.
ويتوقف «أسامة» عن السير لحظات ويقول بصوت منخفض «فيه ناس حالها واقف ما بتشتغلش خالص خصوصا بتوع السياحة، ترددنا على البيوت خلانا عارفين نبض الشارع وحالة الناس، بس هنعمل إيه إحنا عاملين زى البوسطجية بناخد الفلوس من الناس ونسلمها للشركة».
ويحكى مضيفنا: «رحت أحصل مرة فواتير متأخرة من واحد فتح علىَّ المقص، لكن سايسته لحد ما مشيت أعمل إيه لازم أتصرف فى المواقف اللى زى دى، ثم بلغت رؤسائى الذين توجهوا إليه ودفع لهم الفواتير المتأخرة بعد أن اعتذر لهم عما بدر منه، فيه حالات زى كدا كتير بس إحنا ما بنقولش لبعض فى المكتب على الحكايات دى واللى بيقول بيتعمل عليه حفلة تريقة، تعودنا على تحمل غضب المشتركين وامتصاص حماسهم، لأن الشركة ترى أنهم على حق دائما».
وينحرف السير يمينا، لكن الحديث عن مشكلات انقطاع التيار مستمر، يتابع محدثنا «مهنة المحصل أصعب شغلانة فى وزارة الكهرباء، دى أصعب من الكشَاف كمان، لأننا اللى بناخد فلوس من الناس وطبعا أصعب حاجة على البنى آدم دفع الفلوس».
فنى التشغيل: تأتينى «الأوامر» من غرفة التحكم أن أقطع التيار فأقطعه.. والأهالى يهددوننى مع أنى «عبد المأمور»
ويبتسم «أسامة» ناظرا فى الفراغ وهو يقول «فيه ناس بتقولى لو مش عشان خاطرك مش هندفع».
ويستطرد «نذهب إلى مقر الشركة بعد التاسعة صباحا ونظل بها حتى الواحدة ظهرا ثم ننطلق إلى هنا ونعود إلى الشركة بعد التاسعة مساء لتسليم قيمة الفواتير التى حصلناها، ويبلغ عدد المشتركين فى الدفتر الخاص بى حوالى 3 آلاف مشترك».
نتوقف أمام إحدى ورش صيانة السيارات، حيث يضع أسامه حقيبته على قائم خشبى مهلهل ويخرج منها مجموعة فواتير وهو يقول: «الفواتير المتأخرة أكتر من الفواتير الجديدة، فيه ناس كتيرة ما دفعتش الشهر اللى فات ونظام شغلنا بيلزمنا بتحصيل 100% من الفواتير عشان ناخد الحافز، يعنى لو جبنا 95% من الفواتير مش هناخد حاجة لأن دخلنا مرتبط بالإنتاج».
ويطلب «أسامة» قيمة الفاتورة من أحد أصحاب المحال بشارع ترعة الزمر فيرد الأخير عليه ضاحكا: «هو فيه كهرباء عشان ندفع فلوس»، ثم يسأل عن قيمة الفاتورة ويدفع أخيراً فى امتعاض.
نترك صاحب المحل ونتوجه إلى صاحب سوبر ماركت موجود بنفس الشارع، اسمه شريف محمد، ثلاثينى العمر، علامات الغضب تظهر جلية على وجهه الدائرى الأسمر، قال له أسامة «إيه مفيش فلوس؟ فاتورتك عاملة 1500 جنيه» فيرد عليه «شريف»: «مفيش فلوس، البضاعة المجمدة باظت من قطع الكهربا طول الأسبوع اللى فات ورميناها فى الزبالة».
ويكمل «شريف» بانفعال وغضب شديدين «موتور التلاجة اللى فوق باظ هو كمان، وعشان نجيب واحد تانى عاوزين 800 جنيه، مش هدفع الكهربا طول ما النور بيقطع، دا خراب بيوت يا عم الحاج».
تركنا «شريف» صاحب السوبر ماركت وتوجهنا إلى «مكوجى» بنفس الشارع، طلب منه «أسامة» دفع الفاتورة فوعده بتسديدها غدا أو بعد غد، وحذره المحصل من المماطلة حتى لا يتم قطع التيار عنه الشهر المقبل لأنه لم يدفع منذ 3 أشهر.
ويستمر سيرنا فى شارع ترعة الزمر، ويستكمل المحصل حديثه قائلا: «الشارع دا الناس اللى ساكنة فيه أغنيا بيدفعوا على طول إنما الشوارع اللى وراه شعبية شوية وفيه ناس ما بتدفعش، ساعتها أبلغ وحدة قطع التيار بالشركة عن المشتركين الممتنعين، أو الذين لم يسددوا منذ شهور للتعامل معه، لأن دورى يتوقف عند التحصيل فقط».
ويشير محدثنا إلى مزلقان أرض اللواء قائلا: «كل البائعين الجائلين هناك بيسرقوا الكهرباء من أعمدة الإنارة دون أدنى تدخل من شرطة مباحث الكهرباء، وهو ما يؤدى إلى وصول نسبة الفاقد بالشبكة إلى 20%، وهى خسارة كبيرة لنا».
ويتوقف أسامة عن الحديث قليلا، ثم يتابع: «الشركة عملت مؤخرا عدادات مؤقتة اسمها (العدادات الكودية) لأنها بدون أسماء، أُجبرت الشركة على استخدامها من أجل تقليل حالات السرقة خاصة فى المبانى الجديدة المخالفة».
ويصعد «أسامة» إلى الطابق الثانى بإحدى العمارات، ويطرق باب شقة ثم يخرج منها أحد الأشخاص يعرف الطارق معرفة جيدة لكنه يعترض على دفع الفاتورة نظرا لارتفاع قيمتها ثم يقول «هدفع الشهر الجاى لسه بدرى فى الشهر ده».
لم يصب المحصل بالإحباط بعد هذا الامتناع عن الدفع، لكنه صعد إلى الطابق الثالث وطلب من رب أسرة تعيش فى شقة أخرى بنفس العمارة الواقعة بشارع الأوقاف الموازى لشارع ترعة الزمر، ودفع له الرجل قيمة الفاتورة ثم همهم ببعض كلمات غير مفهومة لدى نزولنا من عنده.
ولدى نزولنا من العمارة، حكى المحصل أن السيد توفيق، فنى تشغيل تيار الكهرباء بموزع أرض اللواء، تعرض لاعتداءات متكررة من جانب بعض الأهالى، بسبب الانقطاع المستمر فى الكهرباء، حيث حاصره عدد كبير منهم ووجهوا له العديد من السباب والشتائم وحاولوا ضربه أكثر من مرة، ولم يخلصه منهم سوى أصحاب الورش المجاورة.
قابلنا فنى التشغيل الذى قال لنا «بتجيلى الأوامر من غرفة التحكم، اقطع التيار عندك أقطعه، لكن فيه شوية بلطجية حاولوا يضربونى ووقفوا قدام غرفة التحكم وطلبوا منى إعادة تشغيل التيار، واتصلت بالمهندس مدير التحكم وقلت له على اللى بيحصل من الناس. قال هرد عليك كمان 5 دقائق، أشوف التحكم الرئيسى هيقول إيه. وفعلا كلمنى وقال شغل قبل ما الناس تضربك، أنا يا باشا عبدالمأمور ماليش ذنب فى قطع الكهربا، ولو الناس بتوع الورش دول مش هنا كان زمانى مت دلوقتى».
تركنا فنى التوزيع وشأنه وتوجهنا إلى شارع «الشهداء» الذى يقع فى نطاق عمل المحصل، وأثناء سيرنا قال «أسامة»: «نحن خائفون من خصم ضريبة المرتب التى تبلغ 10% لأنها ستؤثر على العلاوة التى حصلنا عليها مؤخرا، ونحن ملتزمون بدفع إيجارات ومتطلبات أخرى رغم أن الجميع يردد أن موظفى الكهرباء أعلى ناس بتاخد فلوس فى الدولة هما وبتوع البترول، وهذا صحيح إلى حد ما، لكن مصاريفنا كتيرة، أنا باصرف فطار ومشاريب على القهوة كل يوم 20 جنيه».
وينتهى اليوم مع المحصل بسلام، دون أى متاعب مع الأهالى الغاضبين من سياسة «تخفيف الأحمال»، لكن امتناع الناس عن الدفع ما زال مستمرا.