كتب : عبدالفتاح فرج منذ 41 دقيقة
لم يستطع محمد أحمد سالم، 35 سنة، حبس دموعه عندما حضن طفليه وقبلهما قبلة الوداع، مستقلاً أتوبيساً من مدينة المحلة الكبرى بمحافظة الغربية، فى التاسعة صباحاً بصحبة أناس لا يعرفهم، متجهاً إلى ميناء الغردقة، ثم إلى أرض لم تطأها قدماه من قبل بعد أن اقترض 20 ألف جنيه من أصدقائه وزملائه هى قيمة عقد العمل بالسعودية.
الرحلة الداخلية تستغرق 9 ساعات حتى ميناء الغردقة.. والمعاملة فى السعودية أفضل من مصر
يتوقف الأتوبيس مرتين فى استراحتين على الطريق، وفُرض طول الرحلة على «سالم» صداقة بعض الركاب خاصة من أصحاب الخبرة الطويلة فى العمل بالسعودية.. يصل أخيراً إلى الغردقة مع غروب الشمس فى رحلة استمرت 9 ساعات، يُخيّل إليه أن بوابة الميناء سوف تُفتح له فور الوصول لكن لم يحدث ذلك، فجلس بصحبة المئات غيره على الرصيف يقتلون الوقت حتى تأذن لهم إدارة الميناء بالدخول.
«الكفيل وقضاء الدين والمستقبل الغامض» أمور أبعدت النوم من عينيه من كثرة ما سمع من رفاقه بالأتوبيس. عامه الأول بالسعودية سيقضيه لتسديد الدين، فهو همٌّ بالليل وذلٌّ بالنهار كما يقول، يخشى سالم من تعسف الكفيل ضده أو أن يجبره على دفع أكثر من 1500 ريال شهرياً. «الوطن» رصدت معاناة العمال المصريين المسافرين إلى الخليج خلال موسم العودة من جديد إلى هناك، وصاحبتهم خلال الرحلة من ميناء الغردقة حتى مدينة ضبا السعودية، والتقت طاقم العبارة والمسئولين السعوديين، ولاحظت اختلافاً كبيراً فى معاملة المصريين بالميناءين.
فى تمام الساعة الواحدة والنصف صباحاً يؤذن للمسافرين بالدخول واحداً تلو الآخر بعد أصحاب السيارات، حيث ضاقت بهم الشوارع وتسبب الزحام فى حدوث اختناق مرورى بأحد أهم شوارع الغردقة. يقضى هؤلاء ساعات كثيرة انتظاراً للدخول دون أى خدمات أساسية، ولا تسأل كيف يقضون حاجتهم؟ فلا يؤويهم إلا رصيف الشارع، فهو ملاذهم الأول والأخير. وأثناء دخول المسافرين من بوابة الميناء حدثت حالة من الهرج والمرج والتدافع الشديد أمام البوابة. انتظر محمد سالم طويلاً أمام البوابة حتى جاء دوره ووصل إلى صالة الدخول فى حوالى الثالثة فجراً بعد أن خفّ الزحام.
الركاب ينتظرون أمام ميناء الغردقة 5 ساعات ويتسببون فى ازدحام الشوارع قبل أن يتم السماح لهم بالدخول إلى صالة السفر
خلف البوابة الحديدية ينظم أفراد الأمن عملية دخول المسافرين، توجد قاعتان رئيسيتان بالميناء؛ الأولى لإنهاء أوراق السفر والتفتيش والكشف عن الممنوعات، والثانية خالية تماماً إلا من بعض الصناديق الخشبية مع جهاز كبير لتفتيش حقائب المسافرين.
ختم جواز السفر بالمغادرة من مصر هو آخر إجراء يُتخذ بالميناء، على أن يحمل الحقائب «شيالين» يعملون بالميناء يشكو منهم الركاب لأنهم يحاولون ابتزازهم والحصول على عشرات الجنيهات فى الذهاب والإياب.. عددهم أكثر من 300 شيال، يتسببون فى وقوع بعض المشكلات منذ ثورة يناير وما ترتب عليها من غياب أمنى حسب وصف المهندس محمد إسماعيل. مدير فنى بشركة القاهرة للنقل البحرى.
بعد ختم جواز السفر يتجه المسافر إلى العبّارة الراسية على الرصيف.. موسم سفر المصريين عن طريق البحر الأحمر يستمر 4 شهور، يبدأ من يونيو مع عودة المصريين من دول الخليج وينتهى فى أكتوبر، حيث تشهد الموانئ المصرية ازدحاماً ملحوظاً خلال تلك الشهور على حد تعبير أحد أفراد طاقم عبّارة القاهرة. رصيف ميناء الغردقة قصير وصغير جداً، ملقى به بعض الشنط وأمتعة المسافرين فى الهواء الطلق، العبّارة مقسمة إلى درجات؛ أولى ووسطى وثالثة، فى مقدمة السفينة توجد قاعة «VIP» وهى مخصصة للضيوف وكبار الزوار، ثمن تذكرة السفر لا يزيد على 650 جنيهاً، والفرق بين درجات السفينة مجرد جنيهات قليلة.
فى الدرجتين الأولى والوسطى كان يجلس عدد كبير من الركاب السعوديين، افترشوا الأرضية حتى ينالوا قسطاً من النوم، جميع قاعات العبّارة مكيفة الهواء. والشبابيك محكمة الإغلاق، شاشات العرض «LCD» منتشرة بكل أروقة وأعمدة الصالة، تعرض أفلاماً ليست جديدة لكنها تجذب انتباه هؤلاء المسافرين وتهوّن عليهم عناء السفر. انطلقت العبّارة فى تؤدة، ومعها تم سماع دعاء السفر عبر الميكروفونات الداخلية، بعد دقائق يحل الإرهاق على المسافرين بعد عناء يوم طويل قضوه فى الشوارع، فاستسلم بعضهم للنوم على الكراسى، بينما فضّل آخرون النوم فى طرقات العبّارة حيث الموكيت النظيف.
يبلغ طول العبّارة «القاهرة» حوالى 87 متراً وعرضها 28 متراً. مكونة من طابقين رئيسيين بجانب «البريدج»، كابينة التحكم فى السفينة، موجودة بأعلى نقطة بها، والعبّارة أسترالية الصنع، كل جسمها مبنى من الألومنيوم، تتسع لحمل «1200 راكب و120 عربية ملاكى، و15 أتوبيس». وزنها 995 طناً وحمولتها تصل إلى 550 طناً. العبّارة «القاهرة» لها أخت اسمها «الرياض» قدمتها السعودية هدية إلى مصر فى عام 2009، لذلك تم طبع العلم السعودى على كل حوائط العبارة الداخلية. ثمن السفينة الواحدة 40 مليون دولار، وتتبعان شركة القاهرة لعبّارات النقل البحرى.وهما أحدث سفينتين لنقل الركاب بالبحر الأحمر، وكل منهما نسخة من الأخرى تماماً، لا يميزها غير الاسم المكتوب على جسم السفينة من الخارج، وتعملان على خطين فقط؛ الأول الغردقة- ضبا، والثانى سفاجا- ضبا.
الإرهاق يسيطر على المسافرين بمجرد دخولهم العبّارة فيستسلم بعضهم للنوم على الكراسى.. وآخرون يفضلون النوم على «الموكيت»
مع سطوع الشمس وقرب الوصول إلى الشاطئ السعودى استيقظ أغلب المسافرين الذين بلغ عددهم قرابة الألف راكب. تستغرق الرحلة إلى الشاطئ السعودى حوالى 4 ساعات فقط وهى أسرع مدة تصل فيها العبارة إلى السعودية، توجه الكثير من العمال إلى كافتيريا المركب التى تقدم المشروبات الساخنة والباردة بجانب البسكويت. فضّل الكثير منهم احتساء الشاى والقهوة.. بجانب الكافتيريا وقف بعض المسافرين يتجاذبون أطراف الحديث عن إهانة المصريين بالخارج والداخل وشكوا لبعضهم ما تعرضوا له البارحة، وما يقع عليهم من ظلم. وتعجبوا من أن ثمن كوب الشاى بالعبّارة 5 جنيهات، هو مبلغ كبير بالنسبة إليهم، حسب وصف أحدهم. يشكو علاء الشربينى، من الخانكة بالقليوبية، من سوء المعاملة فى الميناء، وقال: تحركنا من ألماظة بالقاهرة بعد صلاة الظهر، ووصلنا الغردقة قبل الساعة التاسعة مساء وجلسنا بالشنط 5 ساعات فى نهر الشارع دون دورات مياه أو أى خدمات أخرى، لكن هناك فى «ضبا» الأمر مختلف تماماً، السعوديون يعاملوننا كبنى آدمين، حيث توجد صالة سفر مكيفة الهواء، ودورات مياه نظيفة جداً، وأتوبيسات تنقلنا من الرصيف إلى صالات الوصول. حصل الشربينى على بكالوريوس تجارة عام 1993، ويعمل بالسعودية منذ 11 عاماً مندوب مبيعات، وله 5 أولاد، بعد وصوله إلى ضبا سوف يركب أتوبيساً ينقله إلى المنطقة الجنوبية بالسعودية فى رحلة تستمر 24 ساعة، حسب قوله.
عدد أفراد طاقم العبّارة 30 فرداً، مقسمين إلى 4 أقسام: الهندسى والبحرى والصالون والإدارى، بجانب العيادة الطبية التى يوجد فيها بصفة مستمرة طبيب إخصائى وممرضة لمعالجة الحالات الطارئة. أعلى السفينة توجد غرفة التحكم الرئيسية «البريدج»، فى مقدمتها يجلس القبطان وبجواره مساعده ومن خلفه كبير المهندسين بجانب الضابط الأول والثانى والثالث. الكابينة مليئة بالأجهزة الحديثة وشاشات العرض والخرائط.
إسلام عبدالفتاح، ضابط ثالث العبّارة، يشرح طبيعة عمل بعض الأجهزة الموجودة بـ«البريدج» قائلاً: جهاز «الإيبرب» ذو اللون الأخضر يحدد موقع السفينة لاسلكياً عن طريق الأقمار الصناعية فى حالة غرقها عند لمس المياه بشكل تلقائى، بجواره يوجد جهاز «المجيب الرادارى» وهو أحمر اللون، يرسل إشارات رادارية من قارب النجاة أو «الرماصات» فى حالة غرق السفينة، يستوعب الرماص الواحد 100 فرد والعبّارة بها 14 رماصاً تكفى لاستيعاب كل ركاب العبّارة والطاقم. بصيص أول ضوء من النهار يبدأ فى الظهور ناحية الشرق، فيما يجلس قبطان العبّارة عصام مصطفى عيسى هادئاً مستقراً على كرسيه فى مقدمة «البريدج» وأمامه شاشات وخرائط وأجهزة أخرى، تخرّج فى كلية القوات البحرية عام 1988، ويعمل ربّاناً منذ 10 سنوات، ويقتصر العمل بهذه الوظيفة على خريجى كليتى القوات البحرية والأكاديمية البحرية، على حد تعبير القبطان عصام عيسى الذى يبلغ من العمر 47 سنة، من مواليد الإسكندرية، كان قائداً لمدمرة تابعة للقوات البحرية المصرية، وشارك فى كل المناورات المشتركة تقريباً وخرج من القوات البحرية ليعمل قبطاناً بشركة شحن إسبانية مع رفيق دربه وصديقه الأعز ابن منطقته «كامب شيزار» بالإسكندرية الربان محمد فتحى، الطريف أنه يقود الأخت الثانية لسفينته «الرياض». يقول القبطان عيسى: أنا المسئول الأول والأخير عن كل الأرواح التى يحملها المركب من الركاب والطاقم، قيادة عبّارات نقل الركاب أسهل بكثير من المدمرات الحربية لأن الثانية عدد طاقمها أكبر وتحمل أسلحة وذخيرة، كما أكد على أنه تم تصحيح الكثير من أخطاء نظام حسنى مبارك، فيما يخص سلامة عبّارات نقل الركاب فى البحر الأحمر، خاصة بعد غرق العبّارة «السلام 98» فى 2006، فلا تبحر حالياً أى سفينة دون معاينة أو الحصول على تصريح السفر؛ حيث يتأكد المفتش البحرى فى كل مرة من شهادات المركب.
أضاف عيسى بمرارة: وجود السفن المصرية بالبحار والمحيطات تراجع بشدة لعدم تطوير الموانئ المصرية القديمة أو إنشاء أخرى جديدة على البحر الأحمر وعدم الاستفادة من وجود ساحلين كبيرين على بحرين مختلفين، مشيراً إلى أن دولاً أخرى تبحث عن «خرم إبرة» على البحر لتستفيد منه، لكن يوجد الآن انتكاسة فى القطاع البحرى بعد عهد جمال عبدالناصر، فالشركة المصرية للملاحة البحرية كانت تملك حوالى 70 مركباً لكنها الآن لا تملك سوى 6 مراكب تجارية.
واستطرد قبطان العبّارة القاهرة قائلاً: الموانئ التى يوجد بها خدمات وتموين وتسهيلات تُدرّ دخلاً كبيراً على الاقتصاد الوطنى، لذلك أطالب أيضاً بإنشاء وزارة مستقلة للنقل البحرى لأن وزارة النقل حملها ثقيل، للأسف مصر تأخرت كثيرا عن العالم وحتى عن دولة المغرب التى تملك أسطولاً كبيراً فى صيد الأسماك، وهى تصدِّر الآن إلى مصر وأوروبا. المهندس ثروت أسعد المستشار الفنى لشركة القاهرة لعبّارات النقل البحرى والمالكة للعبّارتين القاهرة والرياض يقول إن تكلفة تشغيل العبّارة مرتفعة تزيد أحياناً على مجموع ثمن التذاكر لأنها تستهلك 25 طن وقود فى الرحلة ذهاباً وإياباً بقيمة تزيد على 30 ألف دولار. وأضاف أن الحكومة السعودية تدعم عبّاراتها بـ30% من ثمن الوقود رغم أنها عبّارات عادية وتكلفة تشغيلها أقل من عباراتنا السريعة «الهاى سبيد»، الحكومة لا تدعمنا بأى شىء، وتعتبرنا كشركة أجنبية رغم أننا تابعون لها، بينما تقدم الوقود المدعم لـ«لنشات» الصيد التى تبيعه للسفن الكبرى، بل لا توفر الحكومة مكاناً خاصاً للعبّارات السريعة عكس دول العالم.
وتابع أسعد: مشكلات ميناء سفاجا أنه أكبر من ميناء الغردقة ويعج بالركاب والمواد الخام والقمح والفوسفات باستمرار، وصالة سفر الركاب به مغلقة بسبب مشكلات موجودة مع الوكيل السياحى. ومع ذلك لا نرفع سعر التذاكر لتعوض ارتفاع تكلفة التشغيل، كما أن أسعار تذاكر العبّارات العادية قريبة من أسعارنا، موضحاً أن جميع الموانئ المصرية الموجودة بالبحر الأحمر سيئة تماماً بما فيها ميناء نويبع، وأوضح أن هناك 8 عبارات فقط تنقل المسافرين من مصر إلى السعودية عبر البحر الأحمر.
من جانبه يقول اللواء حسين الهرميل، رئيس مجلس إدارة الشركة، إن عبّارتى القاهرة والرياض أحدث سفينتين لنقل الركاب بالحمر الأحمر، وهناك نية للتوسع فى شراء العبّارات السريعة بعد نجاحها فى مصر وإنشاء خطوط جديدة مثل السويس- جدة، والسويس- ينبع.
بعد 4 ساعات ونصف رست العبّارة أخيراً على رصيف ميناء ضبا، بعد فترة مناورة قصيرة غيّرت فيها العبّارة اتجاهها للخلف لنزول السيارات، تأهّب المسافرون للنزول، وتزاحموا أمام باب الخروج بعد، خلوّ السفينة من الركاب بدقائق قليلة بدأ طاقمها فى تنظيفها من الداخل وإزالة مخلفات الركاب استعداداً لاستقبال ركاب جدد. تخصص السعودية صالتين مكيفتين واحدة للوصول وأخرى للسفر. حضر إلى العبّارة محمد عيد، أحد المسئولين السعوديين عن حركة تشغيل الشركة الملاحية بميناء ضبا، وقال: إن أسباب تكدس الركاب المصريين بميناء ضبا فى بعض الأحيان يرجع إلى سوء حالة الطقس والتى تدفعنا إلى غلق الميناء أمام حركة السفن وبالتالى لا نستقبل الركاب الذين تأتى بهم أتوبيسات النقل البرى من أنحاء المملكة. وأضاف: يقوم الركاب المصريون أحياناً بحمل قطع أثاث كثيرة لا يستطيع المركب حملها، وبالتالى يتم تخزينها بالميناء حتى تعود العبّارة مرة أخرى، وهو ما يثير استياء بعض الركاب ويجعلهم يحتجون على ذلك. رحلة العودة إلى الغردقة كانت طويلة لأنها خالية من الركاب ويقوم قبطان العبّارة بعمل ذلك توفيراً للوقود. بعد الوصول إلى الميناء تكررت مشاهد الزحام والنوم على الرصيف مرة أخرى من قبَل العمال المصريين قبل دخولهم إلى عبّارة القاهرة التى وصلت الميناء للتوّ. من جانبه يقول القبطان طارق القاضى، مدير الميناء، إن نقل الركاب بالميناء بدأ منذ عام 1998 ولم يكن مهيأ لذلك، كان فقط ميناء لمراكب الصيد. وعكس التوقعات نجحت تجربة العبّارات السريعة به، وهو ما لم ينشده ممدوح إسماعيل رجل الأعمال الهارب إمبراطور البحر الأحمر السابق. وأضاف: حركة نقل الركاب المتزايدة من الغردقة فرضت علينا توسعة الميناء وتطويره ليناسب ذلك، وحصلنا على قطعة أرض مجاورة كانت تملكها القوات المسلحة، وردمنا حوالى 30 متراً بطول 340 متراً فى مياه البحر، ويتم حالياً إنشاء مبنى كبير مكون من 3 طوابق ليكون مقراً لصالات السفر والوصول وإدارة الجمارك ومطاعم وخدمات، على أن تكون مساحة الميناء الإجمالية 40 ألف متر مربع، وسينتهى العمل بالمبنى الجديد نهاية العام القادم. وتابع: بسبب ذلك الزحام خصصت محافظة البحر الأحمر قطعة أرض مساحتها 11 ألف متر مربع تبعد عن الميناء بحوالى 5 كيلومترات سنبنى فيها أماكن لانتظار الركاب والسيارات لتخفف الضغط عن الميناء.
أخبار متعلقة :