مباشر - سالي إسماعيل: يتزايد الجدل مؤخاً حول إمكانية تحمل الحكومات حول العالم الديون المتراكمة من أجل تحقيق الاستقرار في اقتصاداتها المضطربة بفعل وباء "كوفيد-19"
ويستعرض تحليل نشرته صحيفة "فايننشال تايمز" مناظرة بين اثنين من الخبراء حيال الأثر طويل الآجل على تضخم الحزم التحفيزية التي أقرتها حكومات الدول حول العالم لإنقاذ اقتصاداتها من تداعيات مكافحة تفشي وباء "كورونا".
وجهة النظر الأولى
ويستبعد أستاذ الاقتصاد والسياسة العامة في جامعة ستوني بروك "ستيفاني كيلتون" أن تشكل هذه الديون خطراً كامناً بالنسبة للدول التي تصدر سندات مقومة بالعملة المحلية.
وأجبر وباء "كوفيد-19" الحكومات حول العالم على إنفاق مبالغ كبيرة في محاولة لتحقيق الاستقرار في اقتصاداتها.
وتختفي في الوقت الحالي المخاوف المتعلقة بكيفية تحمل التكاليف، لكن بدلاً من ذلك نشهد مستويات من الإنفاق تشبه تلك المسجلة في زمن الحرب، مما يدفع العجز - والدين العام - إلى مستويات قياسية جديدة.
ومن المتوقع أن تنهي كل من فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة هذا العام مع تسجيل مستويات من الدين العام تزيد عن 100 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي.
في حين أن بنك "جولدمان ساكس" يتوقع أن يقفز معدل الديون الإيطالية نسبة للناتج المحلي الإجمالي إلى 160 بالمائة.
وفي اليابان، تعهد رئيس الوزراء شنيزو آبي بإنفاق جديد يبلغ حوالي تريليون دولار عبر الاستدانة من أجل حماية الاقتصاد الذي تبلغ قيمته 5 تريليونات دولار.
ومن شأن هذا التحرك أن يدفع معدل الديون في اليابان نسبة للناتج المحلي الإجمالي أعلى بكثير من المستوى القياسي المسجل والبالغ 237 بالمائة.
ومع انهيار الناتج المحلي الإجمالي على نطاق عالمي، فسوف يتمكن عدد قليل من الدول من تجاوز هذا المأزق.
وفي الاقتصادات المتقدمة، يتوقع صندوق النقد الدولي أن يكون متوسط معدلات الديون نسبة للناتج المحلي الإجمالي أعلى 120 بالمائة في عام 2021.
وفي حين يرى الغالبية أن مستويات العجز الكبيرة عبارة عن تكلفة تدفع مقابل مكافحة الأزمة، إلا أن العديد يشعر بالقلق من تراكم الديون في عالم ما بعد الوباء.
ويتخوف البعض من أن المستثمرين سوف يقلقون من إقراض الحكومات التي تعاني من ضائقة مالية، مما يجبر الدول على الاقتراض بمعدلات فائدة مرتفعة.
ويشعر البعض الآخر بالقلق من أن الحكومات ستكون بحاجة لفرض تدابير تقشف مؤلمة في السنوات المقبلة، مما يتطلب من القطاع الخاص خفض إنفاقه من أجل سداد الديون العامة.
ولكن هذه المخاوف غير صحيحة، وفي حين أن الدين العام يمكن أن يخلق مشاكل في ظروف معينة، إلا أنه لا يفرض خطراً كامناً بالنسبة للحكومات التي تصدر سندات مقومة بالعملة المحلية مثل الولايات المتحدة واليابان والمملكة المتحدة.
ولا يرجع ذلك، كما يجادل البعض، إلى أن هذه الدول يمكنها الاقتراض حالياً بتكلفة منخفضة للغاية أو بسبب التعافي القوي الذي سيجعلها تنمو بطريقة تمكنها من التخلص من الديون.
لكن يوجد ثلاثة دوافع حقيقية، أولاً، لا تحتاج الحكومة التي تصدر ديون مقومة بالعملة المحلية إلى اقتراض عملتها الخاصة أبداً.
ثانياً، يمكن للحكومة دائماً تحديد معدل الفائدة على السندات التي تختار بيعها.
ثالثاً، تساعد السندات الحكومية على دعم الموارد المالية للقطاع الخاص.
ويجب أن تكون النقطة الأولى واضحة، لكنها في الغالب خاضعة للطريقة التي تدير بها الحكومات عملياتها المالية.
ولننظر إلى اليابان، وهي الدولة التي تتمتع بعملتها السيادية الخاصة، كمثال في هذا الشأن.
ومن أجل إنفاق المزيد، فإن طوكيو تسمح ببساطة بالمدفوعات ويستخدم بنك اليابان الكمبيوتر لزيادة الين في الحساب المصرفي.
ويعني أن تكون دولة تصدر عملة سيادية عدم القلق أبداً حيال الطريقة التي ستدفع بها فواتيرك.
ويمكن أن تتحمل الحكومة اليابانية شراء ما هو متاح للبيع بعملتها الخاصة.
وصحيح أن اليابان يمكنها إنفاق الكثير، مما يزيد من الضغوط التضخمية، لكنها لن تحتاج أبداً إلى اقتراض الين لأنه عملتها الخاصة.
وإذا كان ذلك صحيحاً، فلماذا تبيع الحكومات السندات كلما شهدت عجزاً؟، ولماذا لا تنفق فحسب دون زيادة الدين الوطني؟، وهو سؤال هام.
ويكمن جزء من السبب في العادة، حيث إنه بموجب معيار الذهب، باعت الحكومات السندات، حتى أن العجز لن يترك قدراً كبيراً من العملة في أيدي الناس.
واستبدل الاقتراض العملة (والتي كانت قابلة للتحويل إلى الذهب) بالسندات الحكومية، والتي لا يمكن تحويلها للمعدن.
وبعبارة اخرى، باعت الدول السندات لتقليل الضغوط على احتياطياتها من الذهب، لكن هذا ليس سبب اقتراضهم في العصر الحديث.
واليوم، فإن الاقتراض أمر طوعي، على الأقل بالنسبة للدول التي لديها عملات سيادية.
ولا تعتبر السندات السيادية سوى شكل من أشكال الأموال الحكومية التي تحمل فوائد.
وعلى سبيل المثال، فإن المملكة المتحدة ليست ملزمة بتقديم بديل بفائدة لعملتها ذات الفائدة الصفرية ولا يجب عليها دفع معدلات الفائدة المتبعة في السوق عندما تقترض.
وكما أظهرت اليابان في ظل السيطرة على منحنى العائد، فإن معدل الفائدة على السندات الحكومية عبارة عن أحد خيارات السياسة.
لذا تبيع الحكومات اليوم السندات لحماية شيء أكثر قيمة من الذهب، وهو سر شديد الحذر حول حقيقة طبيعة قدراتها المالية، والتي إذا حظيت بمزيد من الفهم على نطاق واسع، ربما تؤدي إلى دعوات "تمويل نقدي علني" لدفع ثمن السلع العامة.
وعن طريق بيع السندات، فإن الحكومات تحافظ على خدعة كونها مقيدة من الناحية المالية.
وفي الواقع، يمكن للحكومات التي تصدر العملات أن تنفق بشكل آمن دون الاقتراض، بل من الممكن تجنب أعباء الديون التي يشعر الكثيرون بالقلق حيالها.
ولا يعني ذلك أن هناك أيّ خطأ في تقديم بديل للعملة الحكومية يقدم فوائد مالية إلى الناس، حيث تُعد السندات بمثابة هدية للمستثمرين.
إذن؛ السؤال الذي يجب أن نناقشه يتجسد في: ما هو حجم الفائدة التي يتعين على الحكومات أن تدفعه، ولمن تدفعه؟
الرأي الآخر
لكن على النقيض، يعتقد المؤرخ المالي "إدوارد تشانسلور" أن هذه الممارسة النقدية الخطيرة تضمن أن التضخم يلوح في الأفق.
كيف يمكن دفع تكاليف مكافحة الوباء؟، يمكن تلبية كافة نفقات الدولة، سواء كانت صفقة خضراء جديدة أو وظائف للجميع أو عمليات الإغلاق الاقتصادي، عن طريق طباعة النقود، وهو ما يجسد رؤية النظرية النقدية الحديثة.
ومن شأن أنصار هذه المدرسة الاقتصادية غير التقليدية أن يدفعونا لتصديق، كما هو الحال مع أليس في بلاد العجائب، ستة أشياء مستحيلة قبل تناول الإفطار.
وتتمثل هذه المستحيلات في: لا يمكن للحكومات أن تفشل أبداً، الحكومة ليست بحاجة إلى زيادة الضرائب أو إصدار السندات لتمويل أنفسهم، الاقتراض يخلق المدخرات، العجز المالي لا يمثل المشكلة بل هو العلاج، بمقدورنا حتى سداد الديون الوطنية غداً.
ومن الناحية النظرية، فإن النظرية النقدية الحديثة تم رفضها من جانب عموم الاقتصاديين، لكن من حيث السياسة العملية لايزال يتم نشرها.
ومنذ أن ألقى "بن برنانكي"، بصفته محافظاً لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، خطاب "هليكوبتر الأموال" في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2002، كان العالم يتحرك في هذا الاتجاه.
وأثبت "ماريو دراجي"، بصفته رئيساً للبنك المركزي الأوروبي، أنه حتى الدول الأكثر مديونية ليست بحاجة للتعثر عن السداد.
وفي العام الماضي، تجاوز العجز الفيدرالي الأمريكي للموازنة تريليون دولار في الوقت الذي كان يشتري فيه الفيدرالي سندات الخزانة بالدولار المطبوع حديثاً، وهو ما يمثل النظرية النقدية الحديثة بشكل بحت.
وساهمت هذه الأزمة في تعجيل عملية التنسيق بين السياسة المالية والنقدية، وهو ما يحدث الآن بشكل علني، تماماً كما أوصت النظرية النقدية الحديثة.
ومن المتوقع أن يصل عجز الموازنة الأمريكية إلى حوالي 4 تريليونات دولار هذا العام، لكن الزيادات الضريبية ليست على قائمة المقترحات المطروحة، وبدلاً من ذلك سيكتب الفيدرالي الشيكات.
وعبر المحيط الأطلسي، يمول بنك إنجلترا بشكل مباشر أكبر عجز في وقت السلم على الإطلاق.
وتزعم النظرية النقدية الحديثة أن الأموال هي من صنع الدولة.
ويقترب نصيب الاحتياطي الفيدرالي من المعروض النقدي الأمريكي الآخذ في التوسع من 40 بالمائة بل ويرتفع، ومجدداً تثبت النظرية النقدية الحديثة أنها موجودة في الممارسة العملية.
ويعتبر الإغلاق الوطني جراء الوباء لحظة مواتية لتنفيذ النظرية النقدية الحديثة.
وخلال الأزمات، يكون لدى الأفراد طلب مرتفع بشكل غير اعتيادي بشأن الاحتفاظ بالكاش، كما أن تسييل الديون لا يبدو مشكلة.
لكن الحكومات يمكنها طباعة الأموال لتغطية تكاليفها طالما أن الناس لا تزال تثق في العملة، وعندما تنتهي الأزمة يجب التخلص من الأموال الزائدة.
ويدعي أنصار النظرية النقدية الحديثة أنه لا ينبغي أن يكون ذلك بمثابة معضلة، لكنهم يعترفون بعد ذلك بأنه لا يمتلك أحداً نموذج جيد للتضخم.
ولا يمكننا كذلك قياس الطاقة الفائضة للاقتصاد على نحو دقيق، وهو ما يعني أنه من غير المرجح أن يرفع السياسيون الضرائب في الوقت المناسب للقضاء على التضخم في بدايته.
وفي العادة، يمكن إصدار السندات لسحب الأموال من نطاق التداول، لكن بمجرد أن يبدأ التضخم في التسارع، فإن حملة السندات سيطلبون قيمة أعلى للكوبونات.
ومن منظور مالي، من المنطقي أن تصدر الحكومة الديون عندما تكون معدلات الفائدة منخفضة - كما هو الحال اليوم - أكثر من طباعة الأموال الآن ودفع معدلات فائدة أعلى في وقت لاحق.
ولم تحدث حالات التضخم الكبيرة تاريخياً بسبب الزيادات النقدية المفرطة ولكن بفعل صدمات العرض، كما يقول أنصار النظرية النقدية الحديثة.
ومن المرجح أن يتضح أن فيروس كورونا أحد هذه الصدمات.
وإلى جانب ذلك، يثير التاريخ الشكوك في محاولات تفسير التضخم من خلال عوامل غير نقدية.
ويأتي أقرب مثال على النظرية النقدية الحديثة في التنفيذ من تجربة فرنسا مع النقود الورقية.
وفي عام 1720 شغل المغامر الاسكتلندي "جون لو" منصب وزير المالية الفرنسي ورئيس البنك المركزي في البلاد.
وقام البنك المركزي بطباعة الكثير من النقود الورقية، كما تم سداد الديون الوطنية سريعاً؛ لتتمتع فرنسا بالرخاء ولكن لفترة وجيزة حيث سرعان ما بدأ معدل التضخم في الارتفاع واندلعت الأزمة.
والحقيقة تكمن في أن الحكومات لديها تحيز دائم تجاه التضخم، خاصة في ظل ظروف معاكسة مثل الحروب والثروات.
ويُعد الإغلاق الناجم عن "كوفيد-19" ظرف آخر من هذا القبيل.
وسيخفف التضخم الذي سيتم إثارته في الغد من بعض المشاكل المالية اليوم، حيث ستنخفض مستويات الديون وسيتم تقليل عدم المساواة في الثروة.
وبمجرد تضخم الديون المفرطة، يمكن أن تعود معدلات الفائدة إلى مستوياتها الطبيعية.
وعندما يحدث ذلك، ينبغي أن تكون أسعار المنازل يمكن تحملها كما أن العوائد على المدخرات سوف ترتفع.
ولكن لا ينبغي تجاهل شرور التضخم، حيث إن الاقتصادات لا تعمل بشكل جيد عندما يتدافع الجميع لمواكبة ارتفاع الأسعار.
وتؤدي حالات التضخم إلى آلالام خاصة بالتوزيع، كما أن العمال الذين ترتفع دخولهم مع التضخم أفضل من المتقاعدين.
وسيزدهر المدينون على حساب الدائنين، وسيظهر المنتفعين إلى جانب الشعبويين الذين يتزايدون بفعل السخط الاجتماعي.
وتؤكد الممارسات النقدية الحديثة أن حالة أخرى من التضخم تقترب، حيث تتعهد هذه النظرية بتقديم ما يبدو وكأنه "وجبة غداء مجانية"، لكن حتى "أليس" لا يجب أن تصدق ذلك.
مباشر (اقتصاد)
أخبار متعلقة :