تحرير: سالي إسماعيل
مباشر: في حين تشهد سريلانكا مرحلة انتقالية سياسية حاسمة أخرى، فإنها تواجه خطراً رئيسياً يكمن في عدم استقرار الاقتصاد الكلي.
وسوف تتوقف مسألة تحجيم هذا الخطر قبل كل شيء على ما إذا كان رئيس البلاد المنتخب مؤخراً "جوتابايا راجاباكسا" يمكنه تبني سياسات شاملة، وفقاً لرؤية تحليلية نشرها موقع "بروجيكيت سينديكيت" لكبير المستشاريين الاقتصاديين في الحكومة الهندية السابق "آرفيند سوبرامانيان".
من الإنجاز إلى الأزمة
وكانت هذه الجزيرة الواقعة في المحيط الهندي ذات أداء يتسم بالتألق في فترة سابقة، وفي السنوات التي أعقبت الاستقلال عام 1948، فإن التقدم الذي تم تحقيقه في المؤشرات الاجتماعية البارزة مثل الفقر ومعدلات وفيات الأطفال والتعليم الابتدائي ساهم في تجاوز سريلانكا للدول المجاورة لها أمثال الهند وباكستان وبنجلاديش.
وكان هذا الوضع بمثابة مثار حسد كثير من الدول النامية.
ولكن خلال العقود الأخيرة كانت الانقسامات والصراعات بمثابة الآفة التي أصابت البلاد.
ونتيجة لذلك، فإن سريلانكا كانت عرضة بشكل لافت للنظر لعدم استقرار الاقتصاد الكلي.
وبحسب البيانات التي جمعتها "كارمن رينهارت" و"كريستوف تريبش"، فإن سريلانكا قضت حوالي 70 بالمائة من آخر أربعة عقود تعمل على تحقيق الاستقرار بالاقتصاد الكلي عبر برامج صندوق النقد الدولي.
وفي جنوب آسيا، عاشت باكستان فقط نسبة أكبر من تلك الفترة تحت إشراف صندوق النقد الدولي، في حين أن بنجلاديش اتبعت برامج الصندوق حوالي 50 بالمائة من ذاك الوقت ويبدو أنها تخلصت من وصاية صندوق النقد الدولي في عام 2015.
أما الهند فكانت تخضع لبرامج صندوق النقد الدولي خلال حوالي 15 بالمائة فقط من أخر 40 عاماً ، ولم تتبع أي برنامج مماثل منذ عام 1995.
ويعكس عدم استقرار الاقتصاد الكلي عوامل اجتماعية وسياسية أكثر عمقاً.
وطبقاً للراحل "ألبرت هيرشمان"، وهو أحد المفكرين البارزين في التنمية الاقتصادية: "لقد كان من الواضح منذ فترة طويلة أن جذور التضخم تكمن في أعماق الهيكل الاجتماعي والسياسي بشكل عام، وفي الصراع الاجتماعي والسياسي وإدارة الصراع بوجه خاص".
وحتى "ميلتون فريدمان" الذي يشتهر بمقولة إن "التضخم كان دائماً وفي كل مكان ظاهرة نقدية"، اعترف بأنه ذو أسباب اجتماعية أعمق.
وبشكل أساسي، تنشأ مواطن ضعف الاقتصاد الكلي من الصراعات حول كيفية تفسيم "الكعكة الاقتصادية".
وما لم يتم حل تلك الصراعات، فإنها ستؤدي إلى عجز مالي غير مستدام واقتراض أجنبي مفرط وتسارع التضخم وعدم استقرار أسعار الصرف.
وتتضمن أشكال عدم المسؤولية في الاقتصاد الكلي لأمريكا اللاتينية والتي - توضحها نهج البيرونية في الأرجنتين – تفضيل العمال في الحضر والعاملين لدى الحكومة
والبيرونية هي سياسة تستهدف العدالة الاجتماعية وهي أيدلوجية سياسية تتبع فكر الرئيس الأرجنتيني السابق خوان بيرون وزجته الثانية إيفا بيرون).
وفي الوقت نفسه، في الغالب تعكس الأزمات الدورية لأفريقيا جنوب الصحراء الصراعات العرقية والإقليمية.
وبشكل عام، أظهر "داني رودريك" أن الصدمات الخارجية تؤدي إلى عدم استقرار الاقتصاد الكلي عندما لا تكون آليات المجتمع لتقاسم الأعباء تعمل بفعالية.
أزمات متزايدة
وتعاني سريلانكا من الانقسامات على مدى العديد من الجبهات المختلفة، وخاصةً الأيدلوجية والأصل العرقي واللغة والدين.
ويمكن القول إن الخطيئة الرئيسية لسريلانكا كانت التأكيد على الهيمنة اللغوية في تكريس اللغة السنهالية كلغة رسمية في دستور 1956.
وبحلول سبعينيات القرن العشرين، كانت سريلانكا تواجه عصيان شيوعي، ثم جاء الصراع العرقي المستمر منذ عقود، والذي شمل التاميل (الحركة السريلانكية الانفصالية)، وتسبب في تقسيم الجزيرة تقريباً.
وبعد انتهاء تلك الحرب الوحشية في عام 2009، جاءت الانقسامات الدينية في المقدمة والتي ظهرت في تفجيرات عيد الفصح في وقت سابق من هذا العام من قبل متطرفين إسلاميين.
وخلفت تلك الصراعات خسائر اقتصادية فادحة.
خسائر اقتصادية
وتميل المجتمعات ذات الاتفاقيات الاجتماعية والاقتصادية المستقرة بين المواطنين والدولة إلى تسجيل معدلات قوية من التحصيلات الضريبية، الأمر الذي يعكس الرغبة على نطاق واسع لتقاسم أعباء الدفع مقابل الخدمات التي تقدمها الدولة.
لكن في سريلانكا، فإن نسبة الإيرادات الضريبية إلى الناتج المحلي الإجمالي أقل من 12 بالمائة، مع حقيقة أن الضرائب على الدخل تمثل أقل من 25 بالمائة، وتعتبر هذه الأرقام منخفضة بدرجة غير عادية بالنظر إلى الرخاء النسبي الذي تشهده البلاد.
وكانت هذه الإيرادات غير كافية بشكل واضح لتغطية احتياجات الإنفاق الحكومية وخاصةً مع نهاية الحرب الأهلية وما أعقبها.
ودفع ذلك سريلانكا للبدء في سلسلة من عمليات الاقتراض الخارجي في أوائل هذا القرن، ما دفع نسبة الدين إلى الصادرات لتقفز إلى 270 بالمائة.
وعلاوة على ذلك، أصبح هذا الدين مرهقاً على نحو متزايد، حيث ارتفعت حصة الاقتراض بشروط غير ميسرة من حوالي 25 بالمائة لتكون بالقرب من 70 بالمائة.
وبالفعل ثبت أن الدين لا يمكن إدارته بالفعل، كما أن سريلانكا اضطرت لدفع ثمن مهين، حيث قامت بتسليم ميناء هامبانتوتا وأراضي إلى الصين من أجل تسوية جزء من تلك الديون.
وكان العامل الأخير الذي يزيد من نقاط ضعف سريلانكا هو التباطؤ الحاد في نمو الصادرات منذ عام 2000، أيّ قبل انهيار التجارة العالمية بكثير.
وفي الواقع، كانت سريلانكا تتخلى عن العولمة منذ ما يقرب من عقد بينما كان بقية العالم يتجه نحو العولمة بشكل مفرط، وهو ما كان مرتبطاً كذلك بالصراع الاجتماعي.
ويبقى أن نرى الاتجاه السياسي الذي ستسلكه سريلانكا تحت ولاية راجاباكسا، ولكن إذا اتبعت الحكومة سياسات غير شاملة، فمن شبه المؤكد أن هذا سيؤدي إلى ضعف تعبئة الموارد والاعتماد المستمر على التمويل الخارجي بشروط مرهقة إضافة إلى انخفاض معدلات الاستثمارات الأجنبية المباشرة ونمو الصادرات الراكدة.
وفي ظل تلك الظروف، فإن مسألة استقرار الاقتصاد الكلي ستظل هدفاً بعيد المنال.
ويُعد التحدي أمام رئيس سريلانكا الجديد بسيط بقدر ما هو صارم: منع الدولة التي كانت في يوم ما "نجمة آسيا" من التحول إلى نموذج الأرجنتين.
أخبار متعلقة :