تحرير: أحمد شوقي
مباشر: لا تزال السياسة الخارجية للولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب تتعارض مع الأهداف التقليدية بعد الحرب العالمية الثانية، وإذا تخلت عن قيادها للنظام العالمي متعدد الأطراف، فقد يفقد الدولار في النهاية أفضليته.
ويرى تحليل لـ"جيفري فرانكيل" عبر موقع "بروجيكت سينديكيت" أن لغة السياسة النقدية الدولية تحولت إلى "لغة عسكرية"، وأصبحت عبارة "حرب العملات" شائعة منذ عقد من الزمن، ويثير استخدام الإدارة الأمريكية مؤخراً للدولار كسلاح جدلاً.
ولكن المفارقة الساخرة أن هذا النهج قد ينتهي به المطاف إلى تهديد الهيمنة العالمية للعملة الأمريكية نفسها.
ويعتبر هذا هو الوقت المناسب لقياس نقاط القوة النسبية للدولار والعملات الدولية المنافسة (وهذا يعني العملات المستخدمة خارج الدولة).
وفي سبتمبر/أيلول الماضي، أصدر بنك التسويات الدولي مسحه الذي يُجري كل ثلاث سنوات حول حجم التداول في أسواق العملات الأجنبية العالمية، كما أصبحت إحصائيات صندوق النقد حول حيازات البنوك الأجنبية من احتياطيات النقد الأجنبي أكثر موثوقية منذ أن بدأت الصين في الإبلاغ عن حيازتها.
كما يقوم نظام مدفوعات "سويفت" (نظام التحويلات المالية والمعاملات بين البنوك) بإصدار بيانات شهرية حول استخدام العملات الرئيسية في المعاملات الدولية.
خلاصة القول هي أن الدولار الأمريكي لا يزال في المقام الأول بفارق كبير، يليه اليورو والين والجنيه الإسترليني، حيث أن حوالي 47 بالمائة من المدفوعات العالمية تتم حالياً بالدولار مقارنة مع 31 بالمائة باليورو.
وعلاوة على ذلك، فإن 88 بالمائة من تداول العملات الأجنبية تتضمن الدولار، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف حصة اليورو البالغة 32 بالمائة.
كما تملك البنوك المركزية 62 بالمائة من احتياطياتها بالدولار، مقارنة بـ 20 بالمائة فقط باليورو، بالإضافة إلى ذلك يهيمن الدولار أيضًا على مقاييس أخرى لاستخدام العملة في التجارة والتمويل.
أما بالنسبة للصين، فلا يزال الرنمينبي "اليوان" في المرتبة الثامنة من حيث حجم سوق تبادل العملات الأجنبية، لكنه ارتفع في أغسطس/آب الماضي إلى المركز الخامس في مدفوعات "سويفت" ، وبعد تراجع الدولار الكندي والأسترالي احتلت العملة الصينية المرتبة الخامسة في احتياطيات النقد الأجنبي للبنوك المركزية.
وبالتالي فإن التنبؤات التي ظهرت في وقت مبكر من هذا العقد بأن الرنمينبي قد يتحدى الدولار على المركز الأول بحلول عام 2020 ثبت خطأها التام.
وبالفعل، تستوفي عملة الصين شرطين من الشروط الثلاثة اللازمة لتكون عملة دولية رائدة، وهما الحجم الاقتصادي والقدرة على الحفاظ على قيمتها، لكنها لم تحقق بعد الشرط الثالث: الأسواق المالية العميقة والمفتوحة وسريعة التسييل.
وعلى الرغم من أن حصة الدولار من احتياطيات وتداول العملات الأجنبية قد اتجهت نحو الانخفاض، خاصة منذ مطلع القرن الحالي، فإن الانخفاض كان بطيئًا وتدريجيًا.
وعلاوة على ذلك، انخفضت حصة اليورو من الاحتياطيات بشكل أسرع (منذ عام 2007) من حصة الدولار.
ورغم سنوات من عجز الموازنة والحساب الجاري في الولايات المتحدة، وارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، فإن الدولار يظل في مكانة مريحة باعتباره العملة العالمية الأولى، والسبب الأبرز هو الافتقار إلى بديل جيد -.
وأصبحت أوصاف سياسات سعر الصرف مفرطة على نحو متزايد، وإذا أخذنا المصطلحات العسكرية الثلاثة كما هو شائع، فقد نستنتج أن بلدًا يتمتع بقوة مالية كافية يقوم أولاً باستخدام عملته الخاصة كسلاح، ثم شن هجوم مضاربة ضد عملة منافسة، وإذا أدى ذلك إلى الانتقام، فقد اندلعت حرب العملات.
ومع ذلك، سيكون مثل هذا التفسير هراء، لأن هذه المصطلحات العسكرية الثلاث لا تتسق مع بعضها البعض في سياق العملة، ولتوضيح ذلك دعنا نعيد ترتيب الأمر بشكل عكسي: حروب العملة أولاً، ثم الهجمات، ثم استخدام العملة كسلاح أخيراً.
وعندما تسبب وزراء الحكومة البرازيلية في انتشار مصطلح "حرب العملات" في الفترة 2010-2011، كانوا يتهمون الولايات المتحدة ودول أخرى بالسعي إلى خفض قيمة العملة للحصول على ميزة تنافسية.
وفي وقت لاحق، تعهد وزراء مالية مجموعة السبع ومحافظو البنوك المركزية في عام 2013 بعدم استهداف أسعار الصرف، والتي كان من المفهوم أنها تشمل إما تحدث المسؤولين عن عملاتهم، أو السعي إلى التحفيز النقدي في محاولة لخفض قيمة العملة.
وكانت الدولة الكبرى الوحيدة التي انتهكت اتفاقية 2013 ليست الصين، بل الولايات المتحدة، حيث انخرط الرئيس دونالد ترامب مرارًا في "تدخل شفهي" للتحدث عن الدولار، والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أنه ضغط على الاحتياطي الفيدرالي بشكل حاد لخفض معدلات الفائدة بهدف واضح وهو خفض قيمة العملة.
وعلى النقيض، عادة ما يربط خبراء العلاقات الدولية ممارسة القوة الجيوسياسية بوجود عملة قوية، وهذا هو السبب في أن البعض يسلط الضوء على خطر قيام الصين "بمهاجمة" الولايات المتحدة من خلال التخلص من مخزونها الهائل من سندات الخزانة الأمريكية، مما يؤدي إلى انخفاض الدولار ورفع تكاليف الاقتراض للحكومة الأمريكية، وهذا من شأنه أن يعمل على رفع قيمة الرنمينبي وبالتالي سيكون أمراً معاكساً لما تطلبه فكرة خفض قيمة العملة للحصول على ميزة تنافسية للصادرات.
وعلى نطاق أوسع، عندما تدير دولة ما عجزاً كبيراً في الموازنة والحساب الجاري، فإن ذلك يقوض قوتها الجيوسياسية - كما أظهرت المملكة المتحدة خلال القرن العشرين.
ولقد ورثت الولايات المتحدة "الامتياز الباهظ للعملة" من المملكة المتحدة حيث يمكنها تمويل عجزها بسهولة لأن الدول الأخرى تريد الاحتفاظ بالعملة العالمية الرائدة في العالم.
وفي النهاية فإن استخدام الدولار كسلاح عمومًا يشير إلى استغلال حكومة الولايات المتحدة للهيمنة العالمية للعملة من أجل توسيع نطاق القانون والسياسة الأمريكية خارج الحدود الإقليمية، وأبرز مثال على ذلك هو تطبيق إدارة ترامب للعقوبات الاقتصادية ضد إيران في محاولة لدفع طهران خارج النظام المصرفي الدولي، ولاسيما نظام "سويفت".
وحتى قبل أن توافق إيران على وقف برنامج الأسلحة النووية بموجب الاتفاق النووي لعام 2015، كان الأوروبيون يعربون عن غضبهم لتوسع الولايات المتحدة خارج الحدود الإقليمية على اعتبار أن واشنطن قد تكون أسرع في فرض عقوبات كبيرة على البنوك الأوروبية أكثر من المصارف الأمريكيين بسبب انتهاكهم العقوبات.
ولكن نظرًا لإلغاء ترامب معاهدة لم تنتهكها إيران، فإن فرض العقوبات الأمريكية عبر "سويفت" يعد إساءة حقيقية لـ"الامتياز الباهظ" للدولار، ويمكن القول بأن ذلك لم يعد من الممكن تبريره باسم مصلحة عامة عالمية.
وفي مواجهة العقوبات الأمريكية، باعت روسيا احتياطياتها من الدولارات في عام 2018، كما تبيع نفطها بعملات غير الدولار.
وبالمثل، قد تنجح أوروبا أو الصين في تطوير آليات دفع بديلة تسمح لإيران ببيع بعض نفطها، وهذا بدوره قد يقوض دور الدولار على المدى الطويل.
أخبار متعلقة :