كتب : ضياء أبواليزيد منذ 1 دقيقة
أن تجعل الحجر يبدو «متحجراً»، هكذا وصف أحد النقاد العظام فى روسيا وظيفة الفن والأدب فى مطلع القرن العشرين، عن فيكتور شكلوفسكى أتحدث. وربما ما كان يقصده شكلوفسكى الذى كان كاتباً للسيناريو أيضاً هو أن جوهر ما يفعله الفنان هو إعادة اكتشاف الصورة التى نمر عليها عشرات أو مئات المرات بشكل اعتيادى دون أن تستوقفنا ثم تقديمها مرة أخرى كيفما يراها هو/ هى، بكل ما تحمله بداخلها من تفاصيل مدهشة. إنه تفجير بطريقة أو أخرى لطاقة أودعها الله ليس فى عقل الفنان فقط، بل فى داخل الموضوع ذاته الذى يعيد الفنان اكتشافه. ما على المبدع فعله إذن هو فقط إزاحة الستار عن تلك الطاقة الإبداعية الكامنة بداخل كل الأشياء حولنا ثم التواصل معها لينتج عمله الفنى أو الأدبى الذى يؤثر فينا بقدر ما كان هذا التواصل قوياً وصادقاً، وبطول وعمق واتساع الرحلة التى قطعها الفنان فى اكتشافه لزوايا الدهشة داخل موضوعه الإبداعى.
أظننا فى نور هذه الفكرة التى تحاول تفسير الجمال الفنى يمكننا أن نفهم لماذا أصبحت «ذات» الآن هى الشخصية الأكثر جاذبية وربما شعبية، وأصبح المسلسل الذى يحمل اسمها علامة على تألق جيل من صناع السينما الذين توجهوا للأعمال التليفزيونية عندما أصبحت السينما أضن من أن تحتوى طاقاتهم. أتحدث عن جيل يضم أسماء كافحت فى التسعينات من أجل تيار جديد فى السينما يخرج عن أنماط الإنتاج التى لا ترى هدفاً من وراء الفيلم السينمائى سوى «لم الغلة» من الشباك، وجاهدوا فى ذلك ما استطاعوا، ومن تلك الأسماء الكثيرة كاملة أبوذكرى مخرجة «ذات» و«مريم نعوم» التى كتبته عن رواية صنع الله إبراهيم. ومن قرأ لصنع الله إبراهيم يعرف أن رواياته لها طابع تسجيلى مميز يجعلها خامة رائعة لكاتبة سيناريو حساسة مثل «نعوم». لكن التقاط التفاصيل الصغيرة و«لضمها» معاً فى عقد يحوط العنق المصرى الأسمر ويمر على تاريخ البلد من بين ثنايا المنمنمات الشخصية للبنت المصرية التى ولدت مع ثورة يوليو دون تكلف أو سقوط فى فخ الملل، لم يكن بالتأكيد مهمة سهلة. ولم يكن قطعاً منوطاً بجانب إبداعى واحد، فما نراه على الشاشة من سرد لوقائع الحياة اليومية العادية فى بيت مصرى على مدى سنوات عديدة يمكن أن يقود بسهولة إلى نمطية وتكرار إن لم نره فى صورة مغايرة للمألوف. ليس عند «ذات» ولا فى حياتها ما يثير الاستغراب، بل هى فى الحقيقة شخصية «عادية»، ولكن لحظة: هل هناك بالفعل فى الحياة ما يسمى «شخصاً عادياً»؟ إن ما تجعلنا «ذات» نستطيع أن نؤمن به أو نفكر فيه على أقل تقدير هو أن وصف أى إنسان بالعادى ما هو إلا «استسهال» نمارسه نحن البشر لتجاوز الآخر حينما لا يسمح الوقت أو الظرف بالتوقف عنده أكثر مما نستطيع، لكن الحقيقة أن لكل شخص حكاية جديرة بالاهتمام ومثيرة أيضاً لو رأيناها من زاوية بعينها. ليس فى التاريخ الشخصى لـ«ذات» أحداث جسام، ليس من أهوال تواجهها ولا مغامرات تخوضها، إنها فقط تواجه الحياة اليومية فى شوارع وبيوت القاهرة فى النصف الثانى من القرن العشرين، وكفى بها هولاً!
وبقدر ما كان الحوار فى «ذات» كاشفاً، وبقدر ما بذلت المخرجة (ومعها مديرة التصوير نانسى عبدالفتاح) من جهد بيّن فى تقديم صورة تنتمى للسينما بالروح والتكوين وفى انتقاء العناصر الفنية المعاونة التى تألقت بشكل لافت - كانت الزوايا التى نطل منها على شخصيات العمل الأساسية منها والثانوية متنوعة. ويجدر أن نذكر هنا أن الأسلوب السردى الذى تمليه طبيعة الرواية على السيناريو يجعلنا ملازمين فى القسم الأعظم من الوقت لشخصية واحدة، ما يتطلب حرفة كبيرة لنتمكن من هذا الموضع أن نتلفت فنرى العالم من حولها، ونعرف حكايات الشخصيات التى تجاورها بنفس القدر من الاهتمام (فلنتذكر أنه ليس هناك شخص عادى)، وكذلك كانت الوجوه التى يمكن أن نتناولها بالنقد والتحليل فى العمل نفسه، ما قد لا تفى به المساحة، فيستوقفنا أن يتألق هكذا كل الممثلين من أصحاب الأدوار الرئيسية، فلم أرَ باسم سمرة فى هذه الحالة منذ قدم «المدينة» عام 98. ولا أتصور أنها صدفة أن نكتشف فجأة أن لدينا قامة تمثيلية بهذا القدر مثل «انتصار» التى تم إهدار موهبتها طويلاً حتى وقفت أمام كاميرا كاملة أبوذكرى، أما نيللى كريم فهى لا تخيب الظن أبداً، لكنها أيضاً تتفوق وتتخطى فى كل مرة توقعات المشاهد بقدرتها على التنوع فى مراحل الشخصية الواحدة من البنت المراهقة إلى المرأة الناضجة.
إن هذا الجيل الذى كنا ننتظره قد جاء أوانه، وها هو يزهر ويعطر أجواء رمضان، ليس بـ«ذات» وحده ولكن بأكثر من عمل يعيد إلى الفن المصرى ثقته بنفسه ويبشره بكل خير. وأكثرهم من المدرسة التى ساهمت فى تجربة ما سمى بالسينما المستقلة فى التسعينات واستفادت منها، وهم أبناء وتلاميذ صناع السينما فى الثمانينات من جيل خيرى بشارة الذى ساهم فى إخراج «ذات»، لكنهم فى رأيى أنضج وأكثر قدرة على التواصل مع المتفرج أياً كانت ساحة التعبير المتاحة أمامهم.
أخبار متعلقة :