أثار تشكيل لجنة الخمسين التى بدأت أعمالها أمس للنظر فى الدستور المعطل، ومناقشة تعديله أو صياغة دستور جديد للبلاد ردود أفعال متباينة بين مؤيد يرى أن تشكيل اللجنة قد جاء متوازنًا، ومعارض يرى ضعف تمثيل بعض الفئات فى تلك اللجنة. وعلى الرغم من اعتراض الكثيرين على وجود بعض الأشخاص فى تلك اللجنة، إلا أننا يجب أن نتذكر أن وجود هؤلاء الأعضاء جاء بالترشيح من الجهات التى يمثلونها، وفى هذا الإطار أرى أنه مازال هناك من يخلط بين طريقة وطبيعة القائمين على صياغة القوانين واللجان المكلفة بصياغة دستور للبلد. القوانين هى أعمال تشريعية سهلة التعديل والتغيير والإلغاء تُعبر عن تغيُّر الأغلبية والأقلية فى المجتمع، فلو كان المواطنون مثلاً يسعون لإقامة مجتمع العدالة الاجتماعية فسيقومون بانتخاب نواب عنهم فى البرلمان يسنون قوانين لصالح الفقراء، ويتم تعديل أو تغيير تلك القوانين إذا رأى المواطنون فى الانتخابات اللاحقة أنهم يريدون قوانين مغايرة بحسب تغيُّر موازين الأغلبية والأقلية فى المجتمع وتمثيلها فى البرلمان.
الدستور هو الإطار القانونى العام والعقد الاجتماعى الذى يحدد صلاحيات مؤسسات الدولة المختلفة ويُنظم العلاقة بين بعضها البعض، وبينها وبين المواطنين، ويُقر الحقوق والواجبات المختلفة للمواطنين وهذه المؤسسات على السواء، وتنتمى مصر للدول التى تأخذ بنظام الدساتير الجامدة، أى تلك الدساتير (غير المرنة) التى يتطلب تغييرها مجموعة من الإجراءات المعقدة، ما يسمح بثبات الإطار الدستورى للبلاد أطول فترة ممكنة حفاظاً على استقرار الأوضاع العامة، وإلزام من يرغب فى التغيير بالتغيير من داخلها إلا فى حالات التغيرات الاجتماعية الكبرى والثورات التى تُطيح بالدستور لتبنى إطاراً جديدًا للحياة الجماعية للمواطنين.
وعليه فإن تشكيل أى جمعية لصياغة الدستور فى مصر يجب أن يعتمد على تمثيل جميع فئات المجتمع بشكل متوازن ليس فيه غلبة لفئة أو تيار أو جماعة، بما يدفع الجميع للتوافق على الحد الأدنى المتفق عليه فى المجتمع لوضع قواعد دستورية منظمة للمجال العام، وتُترك المسائل التى لا تحظى بتوافق للقوانين التى تتغير بتغيُّر الأغلبية والأقلية النيابية المعبرة عن جماهير الشعب. هنا ستجد الجمعية التأسيسية نفسها أمام سؤالين كبيرين يجب أن تجيب عنهما ليحكما عملها فى الفترة القادمة، الأول: هل يرى أعضاء الجمعية التأسيسية ما حدث فى 30 يونيو ثورة شعبية أم موجة جديدة من موجات ثورة يناير 2011 أعرب فيها الشعب عن رغبته فى عدم استمرار النظام القائم والإطاحة بكل قواعده وبناء قواعد جديدة لنظام جديد؟ (وهو ما أراه)، وبالتالى يجب كتابة دستور جديد للبلاد- لا مجرد تعديل مواد الدستور المعطل- يُعبر عن أحلام وآمال وطموحات المصريين فى دولتهم الجديدة بنظام يحمى حقوقهم ويضمن حرياتهم ويبنى مؤسسات تعمل لصالحهم لا لصالح حاكم أيًا من كان. والسؤال الثانى: هل ترغب لجنة الخمسين فى خلق توافق حقيقى لا مجرد تغيير أغلبية صاغت دستورا يرضيها فقط بأغلبية أخرى تصوغ دستورا لها أيضًا؟
إذا كنا بصدد الحالة الأولى- وهو ما يتمناه المصريون- فيجب أن تضع اللجنة قواعد تُرغم الجميع على بعض التنازل للمصلحة العامة، فى مقدمتها رفع نسبة التصويت بالموافقة فى حالة عدم التوافق على بعض البنود، وجرى العمل فى الجمعيات التأسيسية لصياغة الدستور أن تكون النسبة المعقولة لتمرير مواد خلافية ما بين 70% و90%، أى ما بين 35 إلى 45 صوتًا من أعضاء الجمعية الخمسين- وليس المصوتين- وهى نسبة تضمن توافق مواد الدستور المُمررة بما يُعبر عما يتوافق عليه المجتمع المصرى بشكل كبير، بغير هذا نحن بصدد دستور جديد لا يعبر عن فئات المجتمع المصرى، بل يحوى فى طياته أسباب سقوطه كسابقه. خرج المصريون للشوارع طوال ثلاثة أعوام ليبنوا نظامًا يعبر عنهم جميعًا، لا يُفرق بينهم على أساس الجنس أو النوع أو الأصل الاجتماعى، ويعاملهم كمواطنين لهم الحق الأصيل فى الحقوق والحريات والكرامة فى بلادهم، ولن يرضوا غير ذلك بديلاً، وهى مسؤولية أرى أنها ثقيلة جدًا، خاصة فى الظرف الذى تمر به بلادنا، ولا يسعنا إلا أن نأمل أن يُوفق أعضاء الجمعية التأسيسية فى أدائهم، وسيقف لهم كل المصريين بالمرصاد، فإن أحسنوا دعموهم، وإن أساءوا سيكون مؤيدو تشكيل الجمعية أول من يخرج عليهم لردهم.
لقد دفع المصريون مُقدماً ثمناً لحريتهم ولكرامتهم وللديمقراطية وللعدالة الاجتماعية وللمساواة، دفعوه من دمائهم ولن يرتضوا بغير ذلك بديلاً.
أخبار متعلقة :