(1)
فى مقالنا السابق، طرحنا سؤالا مفاده هل الجوع اختيار أم إجبار؟... ووصلنا إلى أن الجوع هو نتاج أسباب تتعلق بالخيارات الاقتصادية والسياسات المنحازة للقلة الثروية وليس الأغلبية الفقيرة... وتشير الدراسات المبكرة التى عنيت بالغذاء والسياسات الغذائية للشعوب إلى أن الغذاء هو الاختبار الأولى لأى نظام اقتصادى واجتماعى عادل وفعال... من حيث تأمينه للأغلبية الفقيرة وتلبية احتياجاته الأساسية من أنواع الغذاء المختلفة، واتباع سياسات وطنية يتحقق بها الاكتفاء الذاتى منه، بالإضافة إلى ما سبق هو تمكن هذا النظام من أن يحقق فائضا من الغذاء يصدره لآخرين أو يبادل به تجاريا سلعا معينة... وإذا كان الأمر كذلك لماذا لانزال نعانى ـ على الرغم من تغير الأنظمة السياسية ـ من نقص العناصر الغذائية الأساسية فى مصر النيل.
(2)
الإجابة المتعارف عليها، وبحسب المصادر العلمية، تقول إن الجوع ينتج، فى كلمتين: «لندرة الغذاء والأرض»؛ إلا أن الدراسات الحديثة تشير إلى أنه وبفضل التقدم التكنولوجى فى مجالات الهندسة الوراثية النباتية/ الزراعية، والصناعات الزراعية... إلخ، أمكن تعويض ندرة الأرض ومن ثم ضعف الإنتاجية الغذائية بشكل أو آخر... وحتى الإجابة السهلة ـ الشعبية الشائعة والتى للأسف يروج لها السياسيون- التى تقول بأن الجوع يتسبب نتيجة للزيادة السكانية، لم يعد لها وزن جدى مع نجاحات نشهدها لمجتمعات مليارية السكان نجحت فى مواجهة الجوع والفقر مثل الصين والهند... وبالطبع ليست هذه دعوة للزيادة السكانية لأن التزايد السكانى فى مجتمع متخلف ليس لديه مشروع تنموى مركب يدفع إلى كارثة محققة... إذن أين تكمن المشكلة؟
(3)
تكمن المشكلة بشكل واضح ومحدد فى أن هناك من يصنع هذا الجوع عمدا... فهناك قلة تملك الأراضى تدعمها نخب سياسية وحكومات... حيث الأولى تصدر التشريعات الإطارية الملائمة، والثانية تضع السياسات الاجتماعية المطلوبة، والمحصلة هى إنتاج غذائى للاتجار حيث يعود دخله إلى القلة... وفى المقابل تتحمل الدولة توفير الغذاء للأغلبية من المواطنين بالعملة الصعبة... وتشير الدراسات المتخصصة فى هذا المقام إلى كيف أصبح القطاع الغذائى ـ منذ أكثر من 40 سنة كونيا ـ من أكثر القطاعات الاقتصادية خضوعا للسيطرة المحكمة... المحصلة ندرة الغذاء والمياه... إلخ.
ندرة للفقراء ووفرة للأثرياء...
(4)
آن لنا أن ندحض أسطورة تشخيص الجوع بأنه نتيجة لندرة الغذاء والأرض... لأن ذلك بحسب أحد الباحثين ـ «هو لوم للطبيعة على مشكلات من صنع البشر»... الخلاصة إذن علينا أن نبحث عن المستفيد من صناعة الجوع... لقد أثبتت الدراسات العالمية أن معظم البلدان التى يجوع فيها الناس، يسيطر كبار الملاك على معظم الأرض... وفى حالات أخرى ـ وفى غفلة من الزمن ـ يتم تجريف الأرض «بإجرام» للتحول إلى «أرض مبانى»؛ ونشير هنا إلى ما أعلنته الهيئة المصرية القومية للاستشعار عن بعد وعلوم الفضاء (فى عام 2010) عن احتمال اختفاء الأراضى الزراعية فى مصر بعد 60 سنة إذا ما استمر التوسع العمرانى العشوائى بمعدلاته الحالية المرتفعة... ونقلا عن رئيس شعبة التطبيقات الهندسية والمياه فى الهيئة فإن أحدث الدراسات التى تمت باستخدام مرئيات الأقمار الاصطناعية تشير إلى أن منطقة شرق الدلتا النيل قد فقدت حوالى 34% من مساحة أراضيها الزراعية... وأضاف أن بعض العلماء توقعوا أن تخسر مصر بحلول 2050 حوالى 17% من مساحة الدلتا نتيجة الزحف العمرانى العشوائى على الأراضى الزراعية.
يقينا الجوع صناعة... خاصة إذا ما أدركنا عمق المسألة الزراعية.
أخبار متعلقة :