مصراوي Masrawy
11:07 م الأربعاء 14 أكتوبر 2020
كتب- مصراوي:
يدرك المتابعون أهمية ما تمثله قيمة التماثيل المنصوبة في الميادين العامة بكل دول العالم من رمزية لا تخفى على رجل الشارع العادي، ولذا يأخذ صناع القرار دائما نصب أعينهم أثناء إقامة التماثيل في الميادين أن تكون لشخصيات محبوبة ومقدرة لأهل المنطقة أو الميدان الذي سيقام به.
بعد الحوادث التي لا تعد ولا تحصى لقيام مواطنين بإزالة تماثيل منصوبة لشخصيات تاريخية وزعماء سياسيون، في الفضاء العام، كان آخرها في بريطانيا، على إثر الاحتجاجات الشهيرة التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية، لمقتل المواطن الأسود جورج فلويد، وما ترتب عليه من احتجاجات واسعة تجلت ذروتها في إزالة تمثال إدوارد كولستون، وإلقاؤه في نهر أفون، حيث ألقى به محتجون مناهضون للعنصرية في المياه في بريستول جنوب غرب إنجلترا.
وفي مصر شهدت البلاد اعتراضات إثر اتخاذ محافظة بورسعيد قرارا بإعادة تمثال فرديناند ديليسيبس إلى مدخل قناة السويس بعدما تمت إزالته من قبل المواطنين والفلاحين المصريين قبل ما يزيد على ستة قرون باعتباره رمزا للاحتلال الأجنبي لمصر، وتعبيرا منهم على رفض العدوان الثلاثي على مصر.
واتخذت وزارة السياحة والآثار قرارا بنصب التمثال في متحف قناة السويس، وبالفعل تم نقل التمثال إلى مخازن الترسانة البحرية بهيئة قناة السويس، وذلك استجابة للرأي العام الرافض لوجود التمثال واستبداله بتمثال الفلاح المصري.
لم يقف رفض التمثال على المستوى الشعبي فقط، بل تجاوز ذلك إلى النخبة فقد رفض عدد من المثقفين والمؤرخين وأساتذة الجامعة محاولات إعادة تمثال فرديناند ديليسيبس إلى موقعه القديم في مدخل قناة السويس، قائلين إنها محاولة لإنكار التضحيات المصرية لحفر القناة ونسبها بدلا من ذلك للاستعمار، والانتصار للعدوان الفرنسي الذي تم دحره ضمن العدوان الثلاثي في عام 1956، وأقيمت بعض الدعاوى القضائية ضد عودة التمثال.
وتكونت مبادرة "ضد عودة ثمتال ديليسبس" والتي تشكلت من مجموعة من أهالي بور سعيد والتي اقترحت وضع تمثال للفلاح المصري على قاعدة تمثال ديليسبس في مدخل القناة وذلك عام 2012، بدلا من وضع تمثال ديليسبس الذي أسقطه أهالي بورسعيد من على قاعدته.
كما استنكر اتحاد كتاب مصر، في بيان سابق، ما وصفه بعودة تمثال فرديناند ديليسبس المشئوم على رأس قناة السويس في بورسعيد، وقال علاء عبد الهادي رئيس الاتحاد: إن جميع مثقفي وكتاب مصر يعدون ذلك جريمة في حق شعبنا المصري البطل، وتحديا لإرادة شعبنا الباسل الذي أسقط التمثال من منصته -التي نصبته فوقها سلطة الاحتلال- في أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، فأصبح سقوطه تعبيرًا عن استرداد عزة الوطن، وثأرا لشهدائه.
وأضاف عبدالهادي: لقد رأى الشعب في تنصيب تمثال ديليسبس على رأس قناة السويس إهانة لأرواح 120 ألف فلاح مصري استشهدوا في حفر القناة، وتمجيدا لمستعمر قهر المصريين، واستغلهم، واحتل بلادهم، وتكريمًا لنصاب أدانته بلاده فرنسا وحكمت عليه بالسجن خمس سنوات بتهمة الاحتيال، وحكمت على ابنه بالعقوبة نفسها، كما حكمت على حفيده بالإعدام بتهمة الخيانة الوطنية.
وأكمل عبد الهادي: إن قناة السويس التى حُفرت بسواعد المصريين الممزوجة بدمائهم لن تكون منصة مجانية لإحياء رمز استعماري عفن، من أجل هذا يتمسك كتاب مصر ومثقفوها وفنانوها بأن ينصب على رأس القناة أحد الرموز المصرية الصميمة، من إبداع فنانينا، يجسد ملحمتنا الوطنية في حفر القناة والدفاع عنها ضد العدوان.
وأضاف: إن مصر أم الحضارات الإنسانية التي قدمت للعالم - ضمن ما قدمته على مر تاريخها الطويل - عبقريات فن النحت منذ فجر التاريخ، جديرة بأن تستأنف اليوم دورتها الحضارية بأيدي أحفادها ممن صنعوا مجد النحت القديم، سواء باختيار عمل مناسب لأحد رموز فناني مصر المحدثين، أو بدعوة نحاتيها المعاصرين إلى التسابق برؤاهم الفنية لإقامة هذا الصرح كي يكون شاهدًا شامخًا على تاريخ شعب عظيم، وتعبيرًا عن ملحمة البطولة الإنسانية للفلاح المصري الذي حفر القناة في أرضه بعرقه ودمه.
وفي العام الماضي نفى المركز الإعلامي لمجلس الوزراء، ما انتشر في بعض المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي أنباء بشأن نقل تمثال "ديليسبس" من محافظة بورسعيد إلى متحف قناة السويس بالإسماعيلية.
من هو؟
فرديناند ديليسبس هو مهندس فرنسي، والذي يعتبر أول من درس مشروع توصيل البحر الأحمر بالبحر المتوسط في العصر الحديث، وحاول إقناع عباس باشا حاكم مصر آنذاك به إلا أنه رفض المشروع.
وبعد أن تولى سعيد باشا حكم مصر في 14 يوليو 1854 تمكن ديليسبس - والذي كان مقربا من سعيد باشا - من الحصول على فرمان عقد امتياز قناة السويس في نوفمبر 1854 الأول وكان مكونا من 12 بندا أهمها حفر قناة تصل بين البحرين ومدة الامتياز 99 عاما من تاريخ فتح القناة.
وزار ديليسبس برفقة بعض المهندسين منطقة برزخ السويس في 1855 لبيان جدوى حفر القناة وأصدر تقريرا في 20 مارس 1855 والذي أثبت سهولة إنشاء قناة تصل بين البحرين، وشكل لجنة هندسية دولية لدراسة تقرير المهندسين وزاروا منطقة برزخ السويس وبورسعيد وصدر تقريرهم في ديسمبر 1855 وأكدوا إمكانية شق القناة وأنه لا خوف من منسوب المياه لأن البحرين متساويين في المنسوب وأنه لا خوف من طمي النيل لأن بورسعيد شاطئها رملي.
وعندما أعلن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر تأميم قناة السويس في عام 1956، تسبب ذلك في العدوان الثلاثي "فرنسا وبريطانيا وإسرائيل" على مصر.
ومع انسحاب قوات الاحتلال من مصر عام 1956، وجد سكان المدينة على التمثال علم بريطانيا وفرنسا، كتذكار من الاحتلال على استمرار سيطرتهم على القناة، ما تسبب في غضب شديد لأهالي بور سعيد، وهو ما دفعهم للتخلص منه، وأزاحوه من قاعدته، باعتباره رمزا للاستعمار وتجسيدا لحقبة من الظلم عاشها المصريون تحت الاستعمار الأجنبي، كما تم تفجير التمثال الذي لم يصمد أمام غضب المصريين وسقط على الأرض منفصلة رأسه عن باقي جسده.
ثم وضع التمثال الذي يبلغ طوله حوالي ٧ متر ونصف، في مخازن الهيئة قناة السويس إلى أن جاءت جمعية أصدقاء فرديناند ديليسبس من فرنسا ورممته في السبعينات، وفي فبراير 2019 تم تسجيل التمثال ضمن الآثار، وبدأ ترميمه من شهر ونصف ليكون جاهزا لإقامته بعد ذلك.
أخبار متعلقة :