حقيبة كبيرة، تحوي بداخلها «أفرولات»، مذكرات، وصورا مبعثرة كان يرسمها «عرفة» خلال تواجده في الجبهة وقت الهدوء النسبي والراحة قبل العمليات القتالية، كانت تلك هي مقتنيات «عرفة» التى عثر عليها بعد استشهاده، بالإضافة إلى مقتنيات أخرى لم تتعرّف عليها أسرته، إلا بعد ذلك، بدءًا من شريط محمل بالذكريات وخطاب يحمل وصية معنونة بعلم الوصول إلى والديه، كتب لهما فيها أنه سوف سيستشهد.
في 21 فبراير 1950، ولد محمد أحمد عرفة، في منطقة «رشيد»، كان طالبًا هادئ الطباع، وسيمًا، محبوبًا من أهله وزملائه، تعلم في مدارس المحافظة، وحصل على الثانوية العامة 1968.
وفي أوائل 1969، قام شقيقه الأكبر، عبده عرفة، بعملية خاصة في الجيش الثاني، جنوب البحيرات، وعندما استمع محمد إليها، تمسّك برأيه في الالتحاق بالصاعقة، ولكنه كان قد التحق بكلية الفنون الجميلة، لأنّه موهوب فنيًا، ولهُ لوحات رسمها بنفسه، وفقًا للكلمات التى وردت في كتاب «الشهيد»، صفحات من ذاكرة العسكرية المصرية، للكاتبة، منال نور الدين.
وبعدها تم الإعلان عن قبول دفعة استثنائية، بالكلية الحربية، وفي تكتُم شديد قدّم محمد أوراقه، وتم قبوله بالفعل في الكلية الحربية، وبعدها أبلغ أسرته برغبته في سحب أوراقه من كلية الفنون، والتحق بعدها بالصاعقة كما كان يتمنى، حسبما يقول شقيقه، اللواء عبده عرفة: «كُنت وقتها أعمل في منطقة البلاح، بالإسماعيلية، بالكتيبة 33 صاعقة، ومن هُنا كان يتمنى أن يلتحق بالصاعقة مثلي».
وأظهر «عرفة» تفوقًا واضحًا، وتم توزيعه على إحدى كتائب الصاعقة، ثُم ذهبت الكتيبة إلى مرسى مطروح، وظلّت متمركزة هناك، ثم حدثت ثورة الفاتح من سبتمبر 1969 في ليبيا، وكانت كتيبته مُكلفة بمساندة الثورة الليبية، بأوامر من القيادة العامة للقوات المسلحة، وذهب «عرفة» إلى مدينة «بنغازي»، وأمضى فترة خدمته العسكرية هُناك.
وعادت الكتيبة وتمركزت فيما بعد، في الجبهة المصرية، بالمنطقة شمال الإسماعيلية، التابعة للجيش الثاني الميداني في الفرقة 18، وكان قائدها اللواء، عزيز غالي، وظلت الكتيبة تقوم بمهام تحت قيادته، إلى جانب كتيبة ثانية، وكان محمد يعمل في نطاق هذه الفرقة.
وفي المعسكر أيضًا، أعاد «عرفة» الديكور الخاص بمسرح معسكر «جار يونس»، بسبب حنينه لموهبته الفنية، بعد انتهاء عمله عند الثالثة ظهرًا، وأثناء تفرغه في فترة المساء، كان يذهب إلى المعسكر وابتكر ديكورًا رائعًا للمسرح، وكتب اسمه في لوحة الشرف العسكرية، وأشاد بهِ كُل من تعامل معه هناك.
وقبل حرب 1973، يحكي شقيق «عرفة»، قائلاً: «كُنت في إحدى إجازاتي، وقابلني أحد أصدقاء أخي، وأخبرني بأن شقيقه زاره في منزله في بداية شهر رمضان، وترك له شريط كاسيت وطلب منه أن يستمع إليه، وتسلمته منه، ولكني لم أهتم».
وأضاف: «بعد استشهاد (عرفة)، تم إبلاغي بالخبر أثناء وجودي في ليبيا، جئت إلى مصر على الفور، وطلبت صديق محمد واستمعت إلى شريط الكاسيت، وكان قد تركَ وصية مكتوبة لأحد زملائه في الملجأ بمنطقة الحشد بالإسماعيلية».
أما الوصية المكتوبة بخطّ يده، والقلم الرصاص، فقد كتبها في يوم الجمعة، 5 أكتوبر، أي قبل بداية العمليات بيوم واحد، والورقة والشريط موجودان إلى الآن، حسب كلمات أهله: «كان هُناك زميل لشقيقي في نفس الكتيبة، اسمه (النقيب محمد عيد)، وكانا متلاصقين حتى في الموت، كما كانا في الحياة أيضًا».
وجاء في الشريط المُسجّل، الذي جاء الشهيد لتسجيله في القاهرة، في مأمورية لم تستغرق أكثر من 36 ساعة، الكلمات التالية على لسانِه: «أنا حققت ما أريده، والتحقت بالقوات المسلحة، وتحديدًا سلاح الصاعقة، وكنت أتمنى أن أكون ضابطًا وفدائيًا، وحققت أمنيتي، والقوات المسلحة تستعد للحرب، وقريبًا جدًا سوف نُحارب، وأنا أتمنى الشهادة، وأثق بأنّ الله سبحانه وتعالى لن يرد طلبي في هذه المرة أيضًا».
ويقول اللواء المُتقاعد، «عبده عرفة»، شقيق الشهيد: «لقد استمعت إلى الشريط المُسجّل في ساعات طويلة، لأننى لم أتمالك نفسي من الانفعال بما جاء فيه، والأمر المثير أنه ترك وصيته لكل فرد من أشقائه، وقد كُنت في ذلك الوقت في فترة الخطوبة، وأكد محمد بصوته قائلاً (لا تؤجل زفافك بعد استشهادي)».
ويضيف شقيقه: سميت أول طفل رُزقت بهِ «خالد»، ثُم تحدث محمد إلى كُل أشقائي ووالدتي ووالدي، وأعطى وصيته لكُل فرد بالاسم، وكأنّه كان يرى الموت أمام عينيه، وكان سبب وصوله المفاجئ إلى القاهرة في 2 أكتوبر، حيث قضى يومًا ونصف يوم، وسجَّل الشريط في مُهمة سريعة.
ما الخطاب فجاء فيه الكلمات التالية:
«والدى الحبيب / أحمد
أكتب لك هذه الكلمات وربما تكون آخر كلمات أتحدث بها إليكم ، ولكن تظل روحى معكم إلى الأبد والدى الحبيب لقد حباك الله وجزاك كل خير لأنك أنجبت من الأولاد ما هم خيرة الشباب فهذه الكلمات أكتبها إليك ونحن ذاهبون لرد شرفنا ونأخذ كرامتنا التى سلبت من أرضنا والتى أخذها الجبناء، وفى هذه اللحظات يا والدى الحبيب أرجو أن تكون فخوراً وسعيداً وأرجو يا والدى ألا تفرط دمعة واحدة لأننى سأكون زعلان جدا من هذا أرجو أن تكون فى منتهى السعادة لأننى ذهبت إلى مكان جميل من الصديقين والشهداء (ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون).
لى رجاء عندكم ألا تتأخروا من زواج الأخ عبده وتهنئتي مقدما له ولجميع الإخوة الأحباب.
الوالدة الحبيبة .. سلامى وقبلاتى لك، أبسطى، وأضحكى ابنك بقى من الشهداء ومن أبناء الحق افرحى يا امه ولا تحزنى وكونى سعيدة وصيتى لك ألا تطلقى أى صوت بل زغردى وابتسمى وكونى سعيدة لى وفرحانة بى.. أخواتى الأعزاء عبده ألف مبروك مقدما ولى طلب بسيط منك ولو أنجبت ولد أرجو أن تسميه (خالد) وإذا أنجبت بنت أن تسميها (ميساء) هذا رجاء وتحياتى لك وللعزيز أخى كامل شد حيلك وأرجو أن تعمل مدرساً، وكون نفسك دعائى لك أن تكون سعيداً مدى الحياة».
ويستكمل شقيق الشهيد، مسترجعًا ذكريات تلقيه للنبأ الأليم، بـ :«أثناء وجودي في ليبيا، دقّ جرس الهاتف، في منتصف الليل، وكُنت برتبة رائد، وسألت عن شقيقي محمد، وعلمت بخبر استشهاده، ولم أنم في هذه الليلة وقررت النزول إلى مصر، وأخبرت القائد عبدالفتاح يونس بذلك، ووافق على الفور».
وفي المنزل، يستحضر لحظاته قائلاً: «فوجئت بأنّ الأسرة لديها علم بما حدث، وتم تسليم خطاب رسمي إلى أسرة الشهيد من القوات المسلحة، وقالوا إن الجثة موجودة في مقابر الشهداء مع زملائه، وكان صدى الخبر مؤلمًا، وعلى الفور سافر والدي ووالدتي بعدها لأداء مناسك الحج في بداية عام 1974».
وعندما استُشهد، تم نقل جُثمانه هو وزملائه إلى مقابر الشهداء، شرق القناة، في الفرقة 18، ثُم طلبنا نقله إلى مقابر الشهداء بالجيش الثاني بالإسماعيلية، أما متعلقاتُه الشخصية فكانت موجود في حقيبة كبيرة، عبارة عن «الأفرولات»، مذكراته، وصور كان يرسمها في الجبهة وقت الهدوء النسبي والراحة قبل العمليات.
وذكر شهود عيان الذين نقلوا الجثث، أن الشهيد وصديقه بعد أن نفذا العملية، طاردهما العدو وداس عليهما بالدبابات والجنازير، وضرب عليهما بالرشاشات، فاستشهدا معًا ليلة العاشر من أكتوبر، في معركة شهيرة بـ «البالوظة»، والتى كانت منطقة شؤون إدارية للعدو، وتم تدمير النقطة تمامًا.
أخبار متعلقة :