أخبار عاجلة

الرضا والسخط.. والزلط والغلط

الرضا والسخط.. والزلط والغلط الرضا والسخط.. والزلط والغلط

يتعامل البعض مع أحداث التاريخ وشخصياته مثلما هى صاحبة الحكاية المشهورة فى تاريخ الفلكلور.. «إذ يحكى أن عالماً فاضلاً وولياً صالحاً كان متزوجاً من امرأة قوية، ولم تكن تبدى له أى إعجاب أو تعاطف فى حياتهما الشخصية، وقرر أن يستميل قلبها، ففتح فتحة صغيرة فى الجدار الفاصل بين داره وبين القاعة التى يلقى فيها دروسه، وطلب إليها أن تنظر من تلك الفتحة أثناء إلقائه الدروس. وبالفعل جلس متصدراً مجلسه ودخل الكبراء والوزراء والعلماء وانحنوا يسلمون عليه ويُقبّل بعضهم يديه، ولما اكتمل المجلس بدأ حديثه، والكل مستغرق يستمع فى صمت، وما إن انتهى حتى نهضوا ومثلما فعلوا عند الدخول فعلوا عند الانصراف. ودخل إلى داره وسأل المرأة: هه.. ما رأيك؟! ومن فورها ردت: رأيى فى ماذا.. يا حسرتى، الكل جالس عاقل صامت وأنت الوحيد الذى قل عقلك فلم تتوقف عن الكلام من لحظة ما بدأت حتى ملوا منك وانصرفوا.. وما فى واحد عبرك وجاملك ولو بكلمة!!.

وعندها آثر صاحبنا الصمت وانزوى يرتل القرآن ويردد أوراده ويسبح، وكلما مرت عليه نهرته قائلة: يا رجل ابحث لك عن عمل!! وذات يوم عادت من تسوقها تلهث ودخلت عليه صائحة: تحاول أن تقنعنى أنك من أولياء الله وأنت جالس تتمتم طوال الوقت.. ولو كنت معى فى السوق لرأيت أولياء الله الحقيقيين!! فسألها: وهل كان هناك ولىٌّ فى السوق؟ وأجابت صائحة: ليس ولياً فقط وإنما كان طائراً محلقاً فى السماء والناس تهلل وتكبر، وأنا من فرحتى به وحسرتى عليك فككت العقد الذهبى من عنقى ورميته له فالتقطه! وتبسم صاحبنا ومد يده فى جيبه وأخرج العقد وقال لها: هل هذا هو عقدك؟! وذهلت.. ولكنها صاحت وقد خبطت بيدها على صدرها: يا لهوى.. هل كنت أنت الرجل المحلق فى سماء السوق؟! ورد: نعم.. والحمد لله. وجاء ردها الساحق الماحق: «أتاريك كنت معوج.. راسك فى ناحية ورجليك فى ناحية.. ابقى طير عدل بعد كده!».

تلك هى الحال التى لخصها بيت الشعر الشهير:

عين الرضا عن كل عيب كليلة

وعين السخط تبدى المساويا

أو كما قيل أيضاً:

حبيبك يمضغ لك الزلط وعدوك يتمنى لك الغلط

ويعلم الكافة، ممن لهم علاقة بأدنى قواعد البحث العلمى أو الاطلاع الواعى بعلم التاريخ، أنه لا يحتمل زلطاً ولا غلطاً ولا رضاً ولا سخطاً، وما يحتمله هو بذل الجهد فى جمع المادة من مصادرها ومراجعها، ثم إعمال أدوات المناهج العلمية فيها، ومحاولة استخلاص الحقائق منها بالتحليل الذى تتحدد انحيازاته وفق ما هو متوافر من مادة ومستخلص من حقائق.

أما إطلاق الأحكام والوقوع فى الانحيازات المطلقة سلباً أو إيجاباً وعدم المبالاة بما قد يخالف رأى وقناعات المرء حتى إن كان وضوحها المخالف له ساطعاً دامغاً، فهذا شىء آخر غير التاريخ.

تلك المقدمة التى استطالت، وهى مكررة فيما أكتبه، تبدو ضرورية مع حملات الهجوم الصحفية الدورية التى يشنها البعض كلما جاءت مناسبة يظهر فيها اسم جمال عبدالناصر وثورة يوليو وما ارتبط بهما من أحداث، ومثلما هى التوجهات التى قد تبالغ فى الذهاب إلى أن الرجل كان معصوماً نرى الجانب الآخر الذى يراه موصوماً فى كل شىء.. والعجيب أن عبدالناصر نفسه قدم نموذجاً للنقد الذاتى وهو فى قمة الحكم، ومن يطالع خطبه وأحاديثه وحواراته سوف يجده مبادراً لنقد تجربته من كل جوانبها، ولم يدّع لحظة واحدة أنه فوق التقييم.

ثم إن السؤال الحقيقى الذى يجب أن يفرض نفسه على كل الأطراف هو: هل يستطيع أحد مهما أوتى من قوة وبطش أن يحذف الفترة من 1952 إلى 1970 من تاريخ والمنطقة والعالم الثالث بل والعالم، لأن الصدفة شاءت أن تكون مصر فى تلك السنين مؤثرة فى هذه الدوائر.. شئنا أم أبينا؟ وهل يمكن لأحد أن يصادر مسبقاً على الباحثين والدارسين لدرجتى الماجستير والدكتوراه وغيرهما من بحوث وأوراق علمية فيصدر أحكاماً بالسلب أو بالإيجاب ويفرض اتباعها وكأنها محكم التنزيل؟! وهل من مصلحة الوطن طمس أى إيجابيات أنجزت فى أى مرحلة من مراحل تاريخه والتضخيم فى السلبيات لا لهدف إلا لإفحام الآخرين والسخرية منهم؟!

ولقد علمونا منذ زمن طويل أن نقرأ الظواهر كما هى، وليس لنا أن نسقط عليها معاييرنا وأمزجتنا الشخصية، وإلا لما أصبح هناك أى مجال لكى يذهب الزبد جفاء ولكى يمكث فى الأرض ما ينفع الناس.

a_algammal@yahoo.co.uk

اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة

SputnikNews