الصادق المهدى مشوِّهاً العلمانية

نشرت جريدة «الحياة»، فى شهر يونيو من هذا العام، ثلاث حلقات من ملاحظات الصادق المهدى الفكرية والتاريخية حول السودان تحت عنوان «الهوية السودانية بين التسبيك والتفكيك». والصادق المهدى (1935) هو رئيس حزب الأمة السودانى منذ نوفمبر 1964. والذى يعنينى من ملاحظاته الملاحظة الخاصة برأيه فى الهوية، بسبب أنها كامنة فى ثنايا أزمات السودان برمتها ومؤججة لها. ومعنى ذلك أن الهوية السودانية فى أزمة، إذ هى فى حالة صراع بين فريقين.. فريق يقفز فوقها كأنها غير موجودة، وفريق آخر يريد فرض هوية الأغلبية، وهى الهوية الإسلامية. وهى مرفوضة من قبل الصادق المهدى ويطالب بالمراجعة. وحجته فى ذلك أن الدين من الثوابت والدولة من المتغيرات، وإخضاع أمر الدولة للثوابت كالدين يمنع حركة المجتمع.

وهذا الوهم وقع فيه الخوارج عندما قالوا إنْ الحكم إلا لله، وهذا فهم ثيوقراطى، أى فهم يؤسس لحكم الله وليس لحكم البشر. ولكنه عندما بدأ يتحدث عن العلمانية أبان أنها تعنى أن حقائق الأمور هى التى تتعلق بهذا الزمان وهذا المكان، ثم استطرد قائلا: إن العلمانية كانت أصولية، وهى تعنى أن الأمور كلها نسبية، والأحكام كلها عقلية، وهى شرط للديمقراطية. ولكن اتضح أن أسوأ أنواع الطغيان مورس باسم العلمانية كالفاشستية. ومن هنا يقول الصادق المهدى إنه لم يعد من المشروع القول بأن العلمانية شرط الديمقراطية. ومعنى ذلك أن الصادق المهدى ليس من أنصار العلمانية، ولكنه فى الوقت نفسه يرفض إخضاع أمر الدولة للدين. إذن هو يقف فى مفترق الطرق فلا هو متعاطف مع «الجبهة السودانية الثورية» ولا هو منحاز إلى أسلمة المجتمع السودانى. ومن حيث هو واقف على هذا النحو، فإنه يرى المشهد المصرى مماثلا للمشهد السودانى فى الصراع بين العلمنة والأسلمة.

والرأى عندى أن الصادق المهدى قد كان على صواب عندما ميّز بين مطلقية الدين ونسبية الدولة، ولكنه لم يكن على صواب عندما قال عن العلمانية إنها أصولية، إذ هو قول ينطوى على تناقض فى الحدود، أى تناقض فى الألفاظ، على حد تعبير علماء المنطق، إذ نحن أمام تعريفين للفظين هما فى الحاصل متناقضان. فالعلمانية هى التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق، أما الأصولية فهى على النقيض من العلمانية، إذ هى تعنى التفكير فى النسبى بما هو مطلق وليس بما هو نسبى.

والرأى عندى أن الصادق المهدى لم يكن على صواب عندما زعم أن أسوأ أنواع الطغيان مورس باسم العلمانية. فالطغيان يعنى الحكم بالمطلق وليس الحكم بالنسبى، وبالتالى فإنك إذا كنت طاغية فأنت لن تكون علمانياً، بل تكون دوجماطيقياً، أى تزعم أنك مالك للحقيقة المطلقة، وهذه الملكية ليست واردة فى العلمانية. والنتيجة ماذا تكون؟ تكون على النحو الآتى: الدوجماطيقية تقال على مُلَّاك الحقيقة المطلقة، سواء كان هؤلاء المُلاَك أصوليين أو فاشستيين أو نازيين أو شيوعيين. إذن ليس من حق الصادق المهدى أن يقول عن الفاشست إنه علمانى إنما يقول عنه إنه دوجماطيقى، كما أنه ليس من حقه أن يقول عن العلمانى إنه أصولى، لأن الأصولى يتدرج تحت الدوجماطيقى ولا علاقة له بالعلمانى.

ويبقى بعد ذلك سؤال:

ما الذى يمنع العلمانى من الوقوع فى براثن الدوجماطيقية، وبالتالى يتجه إلى الانزلاق نحو الأصولية؟ إنه العقل الناقد. فنحن لدينا عقلان: عقل يفكر وعقل ينقد ما نفكر فيه. وبسبب العقل الناقد أنت محصن ضد الانزلاق. ومن هنا كانت مهمة الأصوليين قتل العقل الناقد.

SputnikNews