أخبار عاجلة

«رابعة - النهضة - كرداسة»: حكايات الخلوة الشرعية والتجارة بالدين والفقر

«رابعة - النهضة - كرداسة»: حكايات الخلوة الشرعية والتجارة بالدين والفقر «رابعة - النهضة - كرداسة»: حكايات الخلوة الشرعية والتجارة بالدين والفقر
«الوطن» تواصل انفرادها بنشر يوميات «صحفية» داخل اعتصامات الإخوان (2)

كتب : منى مدكور منذ 43 دقيقة

دولة «رابعة» ومحافظة «النهضة» وثكنة «كرداسة».. تفاصيل لم يعرفها أحد، ومشاهدات تُروَى لأول مرة، وحكايات تقشعرّ لها الأبدان من فرط قسوتها ولاآدميتها.. عاشتها الكاتبة الصحفية الشابة زكية هداية، وحكتها بأدق التفاصيل فى كتابها «رابعة - النهضة - كرداسة»: حكايات تروى لأول مرة. بعد أن استطاعت اختراق هذه الأماكن الثلاثة، وعايشت تفاصيل حياة الإخوان داخلها على مدار 40 يوماً كاملة. تروى فى الحلقة الثانية كيف تاجر تنظيم الإخوان بأحلام الشباب، وفقر الناس وآلامهم فى «رابعة»، وكيف أن صفوت حجازى تولى دور «الخاطبة» يوفق «راسين فى الحلال»، لكن على مذهب الرئيس المعزول محمد مرسى وشرعيته، ليقضى العروسان أولى لياليهما معاً فى شقق «الخلوة الشرعية» المجهزة على أعلى مستوى من قبل «الشاطر ومالك».

«الشاطر» كان صاحب شقق «الخلوة الشرعية» و«مالك» تولى تأثيثها

تتناول الحلقة الثانية ليلة دخول محمد بديع «رابعة» فى سيارة إسعاف متخفياً فى النقاب، وكيف كان ذلك «ليلة عيد» فى الاعتصام. كما تتناول «شرعنة» الحياة داخل الاعتصام من خلال بلح وكعك الشرعية، و«تى شيرتات» وحجاب وكاب الشرعية، وصولاً لـ«عيدية مرسى»، تلك المئة جنيه التى وزعتها القيادات على الفقراء والمحتاجين للاستمرار فى الاعتصام.. مزيد من المآسى ولحظة «فض الميدان» ترصدها الحلقة الثانية من حكايات «رابعة - النهضة - كرداسة»..

كان اعتصام «رابعة العدوية» بمثابة ساحة للتعارف بين الإخوان والأخوات، وإقامة حفلات الزواج، هناك أخذ صفوت حجازى، رئيس وزراء «رابعة» كما يحب المعتصمون وصفه، مهمة تزويج فتيان وفتيات الجماعة، باختيار العروسة والعريس المناسبين، كل يوم كان يتم الإعلان عن تزويج العشرات وعقد قرانهم، بشكل فى منتهى الغرابة، فـ«حجازى» كان يصر على أن تقول العروسة جملة: «أتزوجك على شرعية الرئيس محمد مرسى ومذهبه»، مخالفاً بذلك عقد الزواج الذى يقتضى قول: «أتزوجك على المذهب الفلانى -من المذاهب الأربعة-»، ومن المعروف أن مذهب الإمام أبوحنيفة النعمان هو المأخوذ به فى .

حفلات الزواج كانت بمثابة عيد داخل الاعتصام، حيث تعلق الزينة وأعلام الإخوان الخضراء، المكتوب عليها «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وترفع صور «مرسى» المعزول، فضلاً عن لافتات أخرى تحمل عبارات من نوعية «الشرعية هى الحياة»، و«مرسى رئيسى والسيسى خسيسى»، ثم يبدأ تشغيل الأغانى والأناشيد الإسلامية، ومن كلماتها: «قولوا للعالم مصر إسلامية لا علمانية.. إلا الشرعية يا محمد مرسى، إلا الشرعية»، وكانت مثل تلك الأغنية تلهب حماس المعتصمين فى «رابعة»، وكأن مساً جنونياً أصابهم، فيأخذ المعتصمون بالرقص فى فرح شديد، وبطريقة هيستيرية كـ«المجاذيب»، ومع ذلك لم ترتدِ أى عروسة داخل الاعتصام فستان الفرح، بحجة الحداد على عزل الرئيس محمد مرسى عن الحكم.

بعد أن يتزوج العروسان على مذهب «مرسى»، يجرى توفير «شقة» لهما من أجل الخلوة الشرعية، وكانت تلك الشقق فى محيط الاعتصام بمدينة نصر، ومملوكة لخيرت الشاطر، نائب مرشد الإخوان، ويجرى إعداد جدول زمنى لكل زوجين، حتى يستطيع باقى المتزوجين نيل فرصتهم فى «الخلوة»، وكانت هناك شقق أخرى استأجرها من قيادات الجماعة بطريقة سرية، شريطة أن تكون قريبة من الاعتصام، وتحديداً فى شارعى عباس العقاد ومكرم عبيد.

استطعت دخول إحدى تلك الشقق، وكانت على أعلى مستوى من التجهيز الفاخر، وفيها كل سبل الحياة الراقية؛ تجد داخلها أحدث الأجهزة الكهربائية والمفروشات المقدمة من حسن مالك القيادى البارز فى تنظيم الإخوان، الذى يمتلك محلات «استقبال» للأثاث، ويقال إن «الشاطر» يشاركه فيها.

كانت الشقة على مساحة كبيرة، وثمن إيجارها لا يقل عن ٣ آلاف جنيه فى الشهر، ومعظمها تابعة لـ«الشاطر»، الذى يمتلك سلسلة عقارات فى مدينة نصر، وضع بعضها تحت تصرف إدارة الاعتصام، كى يختلى فيها المتزوجون «الخلوة الشرعية» التى لا تزيد على ساعة، ولمرتين فى الأسبوع، وفقاً لجدول أسبوعى يجرى تجديده كل أسبوع، بعد أن يقدم الزوجان بطاقاتهم الشخصية لإدارة الاعتصام التى وضعت جداول مخصوصة لهذا الأمر، خصوصاً أن خيم السيدات فى «رابعة» منفصلة عن خيم الرجال.

■ العريان «وزير دفاع جمهورية رابعة» يهدد حزب الوفد علانية»

أذكر أنه فى تمام الساعة الـ9 مساء الخميس 27 يونيو، من العام الماضى، كان عصام العريان قد انتهى من الإدلاء بحوار تليفزيونى لإحدى القنوات الفضائية حول المظاهرات المرتقبة فى 30 يونيو، التى تطالب بإنهاء حكم الإخوان، وأثناء خروجه من الاستوديو فوجئ بمنير فخرى عبدالنور، القطب الوفدى البارز، سكرتير جبهة الإنقاذ آنذاك، الذى كان يستعد بدوره للإدلاء بحوار مماثل يبين وجهة نظر الجبهة حول نفس الحدث، فحرص «العريان» يومها على مصافحة «عبدالنور» ومعانقته بحميمية شديدة، كأن شيئاً لن يحدث بعد أيام قليلة، ثم قال له بلهجة تملؤها الثقة: «منير، راجعوا نفسكو، إنتو بتخسروا كتير»، ملامح الدهشة اعتلت وجه «عبدالنور» وعقدت لسانه عدة لحظات، وبعدها رد قائلاً: «إحنا برضه اللى بنخسر؟»، فقال «العريان»: «أيوه يا منير، الوفد بيخسر، إنتو حزب كبير وماكنش لازم تخشوا فى الحاجات دى»، فى إشارة إلى مشاركة الوفد فى الدعوة لمظاهرات 30 يونيو.

«الكبر هو بطر الحق وغمط الناس»، هكذا يمكن تلخيص الحالة التى كان يعيش فيها القيادى الإخوانى، فقبل أقل من 72 ساعة من ثورة 30 يونيو كان «العريان» يتخيل أن الجميع سيخسر وأنهم فقط الرابحون، وكان يظن أن الإخوان بالفعل يمتلكون ناصية الشارع المصرى، وأن الحشود التى ستنزل للمطالبة بإسقاطهم لن تتجاوز عشرات الألوف فى حين أن أنصارهم يقدرون بالملايين، وهذا هو الوهم الذى عاش فيه أغلب قيادات الإخوان حتى اللحظة الأخيرة فى ميدان «رابعة»، وربما حتى الآن. لكن مشكلة «العريان» على وجه التحديد أنه لم يدرك كونه سبباً رئيسياً فى الانخفاض الحاد الذى أصاب شعبية الإخوان، وأدى بالتبعية إلى سقوط رئيسه. إلا أننى لا أستطيع إنكار الدور البارز لعصام العريان خلال اعتصام «رابعة العدوية»، حيث عمل على وضع خطط التظاهر وأماكنه وكيفية الانسحاب من المظاهرات عند الشعور بالخطر، بل وتشتيت قوات الأمن وإفقادهم تركيزهم، ولاقت خططه النجاح، إلا أن موعد فض «رابعة» فاجأه ولم يكن مستعداً بعد، فقوات «أمن رابعة» التى تدربت على استخدام السلاح ومقاومة رجال الشرطة، لم تتوانَ فى الذود والدفاع عن المعتصمين وإطلاق وابل من الرصاص على قوات الأمن.

وكانت إدارة الاعتصام تأخذ بطاقات المتظاهرين، خاصة القادمين من الأرياف والمغتربين، ولا تعطيها لهم إلا فى حال الحصول على تصريح من قبل قادة الاعتصام بإجازة لا تزيد على يومين، حتى لا تقل الأعداد بالاعتصام وتختفى قدرة الإخوان على الحشد.

صفوت حجازى «خاطبة رابعة».. وكان يوفق «راسين فى الحلال» على مذهب «مرسى» وشرعيته المزعومة

وكانت المنطقة المحيطة بالاعتصام أشبه بالثكنة العسكرية، حيث حرصت إدارة الاعتصام على بناء سواتر وحواجز خرسانية فى محيط الاعتصام، وزودها بالأسمنت والزلط أحد مديرى الأفرع بشركة المقاولون العرب فهو رجل فاسد، فيما استحل الإخوان للمرة الثانية سرقة مقدرات الدولة المصرية وأموال الشعب داخل اعتصام «رابعة»؛ فبعد سرقة سيارات البث الخاصة بالتليفزيون المصرى، التى قدرت بـ5 ملايين جنيه، سرقوا أيضاً الأسمنت والرمل لبناء دشم خرسانية وسواتر تحيط بمقر الاعتصام، ليتحول إلى ثكنة عسكرية فجأة، وتم بناء تلك الحواجز فى ليلة واحدة، وزودت إدارة الاعتصام اللجان التى تتولى تأمينه بعدد لا بأس به من العصيان الكهربية والصواعق والجنازير والأسلحة.

■ ليلة العيد.. زيارة المرشد فى سيارة الإسعاف لمعتصمى «رابعة»

على الرغم من أن محمد بديع، مرشد الإخوان، لم يزر الاعتصام سوى مرة واحدة فقد جاء فيها متخفياً بارتداء النقاب، ودخل الميدان عبر سيارة إسعاف، إلا أن الأمر وقتها كان يبدو كأنه معروف لقيادات الإخوان فى الاعتصام، حيث كانت هناك حالة من التأهب الأمنى داخل الاعتصام بشكل غير طبيعى، وتم تغيير طاقم اللجنة الأمنية والتفتيش أكثر من مرة، فتأمين الاعتصام وتفتيش كل الوافدين على «رابعة» كان على أكمل وجه.

حرص الدكتور عصام العريان، نائب رئيس حزب الحرية والعدالة، ووزير دفاع دولة «رابعة»، على اختيار شباب وفتيات أقوياء لإدارة وتفتيش الاعتصام، وكان يجرى تغيير وردية المراقبة -كما كانوا يسمونها- كل 6 ساعات. وقابلت إحدى السيدات كانت تتولى تفتيش الوافدين للاعتصام من النساء، وتصادف أنها من قرية ميت الحارون القريبة من قرية «تفهنا العزب» مركز زفتى محافظة الغربية، وتدعى «أم عصام»، كانت امرأة قوية، نعم قوية البنيان، جسدها يشبه كثيراً الرجال، حينما أمسكت يدى لتصافحنى شعرت بأنها فى قبضة حديدية، هى سمراء ترتدى خماراً وجلباباً يظهران قوتها، تجاوزت العقد الرابع من عمرها، إلا أنها ما زالت محتفظة بشباب امرأة فى سن السابعة والعشرين من عمرها، لا تبرح مكانها بإدارة أمن الاعتصام إلا بعد قضاء 12 ساعة كاملة على قدميها، وتتولى تفتيش كل النساء الوافدات إلى الاعتصام بعناية شديدة، وكأنها تدربت على هذا الأمر مراراً وتكراراً، وبحسب ما قالته لى: جاءت لتنصر الإسلام والمسلمين، وشرعية الرئيس «مرسى»، بعمرها، شأنها شأن كل الموجودين داخل الاعتصام.

محمد بديع ـ الذى قال قبل ثورة 25 يناير إنه يدعم ترشح الرئيس الأسبق حسنى مبارك لولاية سادسة، ووصفه بالأب لكل المصريين، وهكذا كان ماضى الإخوان - كان دخوله اعتصام «رابعة» متخفياً فى «النقاب» بمثابة «ليلة عيد»، فوجئ الكل بوجوده، فى حين أن عصام العريان لم يكن مندهشاً فهو الوحيد الذى أعد كافة الترتيبات الأمنية لهذا الوجود، وأمَّن الاعتصام بما فيه الكفاية لاستقبال «المرشد العام».

بعد أن دخل «بديع» الاعتصام وسط التهليل والتكبير، خطب خطبة دامت أكثر من نصف ساعة، ووضح فيها الكثير مما يجول داخل عقول الإخوان وعلق بالكثير من الجمل التى نالت رموز مصر الدينية والسياسية بكثير من السباب والتحقير، كان من بين حديثه: «أوجه كلامى إلى الشيخ أحمد الطيب، وأقول له أنت مجرد رمز دينى ولا يجوز لك التحدث باسم الشعب المصرى»، بينما قال فى جملة أخرى: «أوجه رسالة للبابا تواضروس، أقول له فيها: لقد خالفت يا أنبا تواضروس ما وصاك به البابا شنودة بالبعد عن السياسة»، وأضاف: «كل المصريين نزلوا إلى اللجان واختاروا برأيهم، منهم من اختار الدكتور محمد مرسى، من المسلمين، ومنهم من رفضه، والأقباط كذلك منهم من اختاره ومنهم من رفضه، لذا يا بابا تواضروس لا تتحدث باسم الأقباط، أنت رمز دينى فقط».

وتابع «بديع»: «الحمد الله على هذا الجمع الكريم الذى يعبر عن مصر جميعها، بكل طوائفها وأعمارها واتجاهاتها، وإلى كل أحرار العالم: اسمعوا صوت شعب مصر الهادر»، ثم واصل خطبته العصماء وسط تهليل الإخوان وتكبيرهم: «يا كل شعب مصر، يا من قمتم بثورتكم البيضاء، عشتم معاً وضحيتم وبذلتم الدماء وضحى إخوانكم من قبلكم عشرات السنين فى السجون والمعتقلات، هم وكل المجاهدين من شعب مصر وواجهوا الصهاينة والإنجليز والحكام الظالمين، شعب مصرى أبىّ وسيظل محافظاً على ثورته وسيظل مطالباً بحقه، ولن يضيع حق وراءه مطالب»، وشدد قائلاً: «أنا لن أفرّ، ولم يقبض علىّ، هذا كذب وافتراء وتضليل وتزوير، ونحن لسنا فرّار بل نحن ثوار، كل الملايين ستبقى فى الميادين حتى نحمل رئيسنا محمد مرسى على أعناقنا».

«بديع»، الذى يتحدث عن الثبات واستحالة الفرار، لم يستطع أن يبيت ليلة واحدة فى الاعتصام، وترك أعضاء جماعته وغادر الاعتصام على الفور بعد انتهاء خطبته كما جاء فى عربة إسعاف.

لم يتوقف المرشد ولا قيادات الإخوان عن التلاعب بمشاعر وعقول الفقراء والمساكين الذين أُجبروا على البقاء فى الميدان عند هذا الحد، فقد حرصت قيادات التنظيم على استغلال حاجتهم للمال بمنتهى «الخسة والنذالة» عن طريق «زكاة فطر اعتصام رابعة العدوية»، لا تتعجب عزيزى القارئ من هذا الاسم كثيراً، فهذه هى الفاشية الدينية التى تأخذ الدين ستاراً لكل شىء وتتلاعب به كأنه جوال تأخذ منه ما تريد وتترك منه ما لا ترغب فيه.

«المرشد» هدد البابا تواضروس فى خطبته وتحدث عن الثبات واستحالة الفرار.. ولم يستطع أن يبيت ليلة بالميدان

حدث هذا قبل عيد الفطر المبارك بيوم واحد، عندما وزعت قيادات الاعتصام ما يقرب من 100 ألف جنيه على الفقراء والمساكين الذين أتوا لـ«رابعة» من أجل الحصول على المال ومن ثم إقناعهم بالبقاء وأخذ بطاقاتهم لاحقاً، هم وجوه بسيطة طحنها الفقر والحاجة وضيق ذات اليد وداست أقدام المجتمع على آدميتهم، فالكثير من هؤلاء ليسوا خونة وإنما مطحونون من الأنظمة السياسية التى مرت على مصر طوال 60 عاماً ولم ترعهم، ولجأوا لأحضان وأموال الإخوان لا لشىء سوى أن «الجوع قاسٍ». ومن جانبهم، لم يتوانَ الإخوان فى توفير الأموال لهذه الشريحة الغائبة عن أعين الحكومات فى بلدى، فهم منسيون وكأنهم مجرد «نمل» لا يراه أحد، أعطوا كل سيدة وكل رجل 100 جنيه كعيدية من اعتصام «رابعة» باسم «عيدية الرئيس مرسى».

■ بلح الشرعية وكاب الشرعية وحجاب الشرعية.. باسم «مرسى» وبما لا يخالف شرع الله

خلال رحلة الـ45 يوماً داخل اعتصام «رابعة» وجدت كل شىء يباع باسم الدين وشرعية الرئيس المعزول محمد مرسى؛ كان هناك بلح الشرعية، الذى وصل سعر الكيلو منه إلى 20 جنيهاً، و«تى شيرتات» الشرعية المطلية باللون الأصفر ومرسوم عليها صورة «مرسى»، وقبعات الشرعية التى بلغ سعر الواحدة منها 8 جنيهات، وحجاب الشرعية بـ35 جنيهاً، وكعك الشرعية الذى كان يوزع مجاناً من المعتصمين على الوافدين أول وثانى أيام العيد. فكل شىء يؤكل أو يشترى داخل «رابعة» ترافقه كلمة الشرعية، وكأنهم يريدون لوافديهم ترديد الكلمة كثيراً حتى تثبت فى عقولهم، فلا يتراجعون عن الوجود فى الاعتصام.

كانت إدارة «رابعة» تحصل على بطاقات المتظاهرين تحت ذريعة حساب أعدادهم، وعمل وجبات إفطار وسحور لهم من مطبخ الاعتصام، الذى تم بناؤه فى المنطقة الخلفية لمسجد رابعة العدوية. حينما دخلته هالنى المنظر؛ وجدته شاسعاً ممتلئاً بالأرز والسكر والبطاطس والطماطم والبصل، فى أجولة واسعة وكثيرة موضوعة فوق بعضها بعناية شديدة، حيث وصلت من الأرض للسقف، وكان الطبخ فى أوانٍ كبيرة ضخمة من قبل الرجال، لأن النساء لا تقدر على هذا العمل الشاق، ويجرى ذبح عجول كل يوم وطبخ اللحوم وتفريقها على المتظاهرين.

■ عناصر «حماس» وحزب الله فى «رابعة»

جاء يوم فض اعتصام ميدانى رابعة العدوية والنهضة فى 14 أغسطس، وكان يوماً غريباً؛ توجهت للاعتصام فى تمام السادسة صباحاً، وكانت قوات «الداخلية» قد حذرت المتظاهرين وطالبتهم بالرحيل من الاعتصام، إلا أنهم تشبثوا بأماكنهم ورفضوا الانصياع لأوامر القوات، وجاءت بعد ذلك مرحلة إطلاق قنابل الغاز المسيلة للدموع وتصدى لها المتظاهرون بإطلاق قنابل غاز على قوات الأمن، واشتدت حدة فض الاعتصام، ليبدأ إطلاق الرصاص من الإخوان وقوات الشرطة والجيش، التى حاصرت الاعتصام من كل جوانبه وتركت مخرجاً للمعتصمين عن طريق طيبة مول، وبدأ سقوط الضحايا والمصابين.

من أكثر أكاذيب الإخوان الإرهابيين، التى كانوا يروجونها طوال الوقت، أن اعتصاماتهم سلمية، لكنى رأيت بأم عينى أكذوبة سلمية الإخوان، وكيف كان يجرى تهريب الأسلحة من كل الأنواع، والرشاشات والطلقات النارية، وتخزينها فى أماكن بعيدة عن الأعين تمهيداً لاستخدامها حال فض الاعتصام، وهو ما حدث بالفعل، فالإخوان كانوا أول من أطلق النار على قوات فض «رابعة».

أثناء دخولى الاعتصام من شارع مصطفى عباس وجدت فتيات وسيدات يخرجن سريعاً من دون مواجهة قوات الأمن لهن، أو إلقائها القبض عليهن، ورأيت وجوهاً غريبة لم أرها طوال 45 يوماً، قضيتها فى «رابعة»؛ فتياناً أقوياء يحملون السلاح، بعضهم من جنسيات عربية، سوريون كما لاحظت من كلامهم.

قابلت «أحمد»، شاب فى الثلاثين من عمره، ذو لحية كثيفة يرتدى «تى شيرت» أبيض وبنطلوناً أسود، قصير القامة، مفتول العضلات، قوى البنيان، يحمل عصاه فى يده، ملطخة ملابسه بالدم جراء اشتباكه مع قوات الأمن وإصابته بطلقات خرطوش. حينما سألته عن حال المعتصمين قال: الإخوة صامدون حتى النهاية. وكان «أحمد» يستريح قليلاً ويأخذ هدنة من مواجهة قوات الأمن قبل أن يدخل مرة أخرى لمكان الاشتباكات عند المنصة الرئيسية لـ«رابعة».

لم يكن الشباب وحدهم يواجهون قوات الأمن بل النساء أيضاً، حيث عملن على تكسير حجارة الأرصفة بمحيط «رابعة» ووضعها فى شكائر وإعطائها للرجال، وحينها بصرت عيناى «نوال»، سيدة تعدت الأربعين ربيعاً من عمرها ترتدى جلباباً أسود وحجاباً لم تتمكن من إحكامه جيداً فأظهر القليل من خصلات شعرها، كانت تهتف بكل ما أوتيت من قوة: «الله أكبر والنصر لنا»، صوتها العالى لا يتناسب أبداً مع وهن جسدها وضعفه، كان بمثابة صوت يحفز المتظاهرين ويدفعهم لمقاتلة قوات الأمن باستماتة، وعرفت وقتها أن هناك عناصر من «حماس» وحزب الله مشاركة فى مواجهة قوات الأمن داخل الاعتصام.

خيم شبح المعركة على الاعتصام وكأن الإخوان، الذين يسمون أنفسهم جيش الإسلام، يقاتلون الجيش اليهودى لا الشرطة والجيش المصريين، حقاً إنها مأساة حينما يتقاتل أبناء الوطن الواحد على منصب أو كرسى! هى الحرب التى لا أجد لها تعريفاً سوى أنها ساحة يتقاتل فيها طرفان لأجل أهداف طرف ثالث يجلس بعيداً عن ساحة المعركة. كان النجاح حليف الإخوان فى بداية المعركة، فأول 4 قتلى سقطوا من صفوف قوات الأمن عن طريق قناصة الإخوان، الذين اعتلوا أسطح العمارات وأصبحوا يطلقون وابلاً من الرصاص على كل من يقابلهم، مستخدمين مدافع الجرينوف والرشاشات الآلية.

وعرفت بعد ذلك أن شخصاً يدعى على، سورى، هو من كان يطلق النيران من أعلى سطح مسجد «رابعة». عندما دخلت مستشفى «رابعة»، حيث آلاف الجرحى والمصابين لا توجد أسرّة تستوعبهم، ملقون على الأرض، عندها شاهدت جثته كان مقتولاً بالرصاص، ورأيت والدته التى كانت تبكى بمرارة رحيل ابنها وسندها الوحيد، هى الأقدار التى جعلت «على» يأتى من سوريا حياً رغم القتال الدائر هناك بين الجيش النظامى بقيادة بشار الأسد، وبين الجيش الحر، لينضم إلى صفوف المقاتلين فى اعتصام «رابعة»، ويُقتل من طائرة نزلت على سطح المسجد. هالنى بكاء والدته التى فقدت ابنها الوحيد، امرأة فى الستين من عمرها، بيضاء، وجهها كالقمر ليلة البدر، لم تظهر عليها علامات الزمن بعد، تبكى كمداً على ابنها وتحتضن جسده الغارق فى الدماء وهى تتمتم بكلام لا يفهمه أحد.

DMC