ناصر الفيصل: جهيمان يستسلم والكهرباء تؤخر المرحلة الأخيرة (3)

ناصر الفيصل:
جهيمان يستسلم والكهرباء تؤخر المرحلة الأخيرة (3) ناصر الفيصل: جهيمان يستسلم والكهرباء تؤخر المرحلة الأخيرة (3)
يختتم الأمير ناصر بن فهد بن فيصل بن تركي الفرحان آل سعود شهادته للتاريخ على عملية إخلاء جهيمان العتيبي وأتباعه من الحرم المكي في حادثة احتلال الحرم غير المسبوقة عام 1979، ويوضح في حلقة اليوم كيف رسمت النهاية لتلك العملية بكفاءة متميزة.

ويقول الأمير ناصر: «حتى تتم مطاردة جهيمان وأتباعه في قبو الحرم بالشكل الجيد والمرسوم تم التحرك إلى الجهة الأخرى من الحرم، وهي منطقة المسـعى، التي تتواجد فيها قوة من الحرس الوطني، وهذه هي المرحلة الثانية من العملية؛ ولأنه كان يوجد هناك مصرف للسيول مجاور للقبو من خارج الحرم، فقد كان لا بد من التأكد من خلوه من أي اتصال بالقبو، لذا قام الزميل محمد الشايع بالنزول داخله، وكان المصرف بمقاس (3X3) أمتار تقريبا، وتم التأكد من عدم اتصاله بالقبو. بدأنا العمل في منتصف المسعى لأن الخلوات بالقبو تبدأ من هناك باتجاه منطقة الصفا، والخلوات تقع في صفين متواجهين وبينهما ممـر، وتشكل هذه المنطقة منطقة نهائية للقبو مثل منطقة باب السلام، ولذلك قمنا بثقب سطح كل خلوة، وهي أكثر من عشرين غرفة، لنتأكد من طرد أي عنصر موجود هناك، وإرغامه على التوجه باتجاه منطقة الصفا. كان عنصر المفاجأة قويا على من في الخلوات، وكانوا يسمعون صوت الحفار فوق السقف، ولكن لا يعرفون من أين سـيكون الثقب، والعبوات الناسـفة تسقط من خلال الثقب فورا، لإحداث أكبر قدر من الرعب، لإجبارهم على الابتعاد عن المكان فور سماع صوت الحفار فوق رؤوسـهم. توجهنا بسـرعة باتجاه الصفا، وتم الوصول إلى الصفا خلال مدة لا تتجاوز الأربع ساعات، حيث إن الثقب الواحد لا تتجاوز مدة حفره 15 دقيقة».

صعوبة شديدة

يكمل الأمير ناصر: عند الصفا بدأ الأمر أكثر صعوبة، نظرا لكثرة الانحناءات حول الصفا وبعده، وقد حاولنا إدخال إضاءة عبر الثقوب لنتمكن من رؤية القبو، ولكنهم كانوا يطلقون النار عليها فورا ويكسروها، لذ لجأنا لإنزال مايكروفون لغرض سماع أي تحركات، وقمنا بالمناورة حول الصفا وبعده، متتبعين كل غرفة والممرات كثيرة الزوايا، واسـتمرت المطاردة حتي تم إبعادهم عن الصفا باتجاه باب الملك.

وعندما تأكدنا من خلو المنطقة تحت المسعى، قامت قوة الحرس الوطني بالنزول للقبو وتأمين المنطقة التي تم إخلاؤها، ومنع جهيمان وأتباعه من العودة إليها.. وبعد نزول القوة للقبو تم إخلاء بعض الجـثث، وكان من بينـها جثة المهدي المزعوم، وكان ذلك مسـاء 12 محرم 1400هـ. تم التحرك للجهة الأخرى لتبدأ المرحلة الثالثة، التي امتدت ما بين باب السلام وباب العمرة.. لم تكن المنطقة معقدة مثل المرحلتين الأولى والثانية، ولكن مسافتها طويلة وبها منطقة إدارية متداخلة، وهنا بدأت المطاردة تشـتد شراسة، حيث كنا نطاردهم من أعلى والقوات تشتبك معهم وتطاردهم بالأسـفل، وبالتنسيق المستمر بيننا وبين القوات عبر الاتصال اللاسلكي، واستمرت العملية إلى قرابة نهاية اليوم، وهو اليوم الثالث من البدء بمهمتنا. وفي عصـر ذلك اليوم 13 محرم 1400هـ كنت أعمل خارج الحرم تحضيرا للمرحلة الرابعة ما بين باب الصفا وباب الملك، وعبر درج باب أجياد، ظهر جهيمان العتيبي ومعه ثلاثة آخرون من رفاقه رافعين أيديهم ومعلنين استسـلامهم. لم أصدق أن الله أكرمني لأن أحظى بهذه المفاجأة والمكافأة؛ لأكون هنا في هذه اللحظة لأرى نتيجة المهمة أمامي، حيث يظهر جـهيمـان للإمسـاك به، وعلى درج باب أجياد من الخارج كان هناك وحدة من الشـرطة العسـكرية تقوم بحراسة الباب، وعلى الفور قمت وآمر الوحدة باستقبالهم وإركابهم في سيـارة جيب عسـكرية تابعة للوحدة، وكان بالجيب أربعة مقاعد، أجلسـنا اثنين منهم بالوسـط، بينما جلس جهيمان وشخص آخر بالمقعدين الخلفيين ووجوههم إلى الخلف. وركبت وآمر الوحدة على إقصدام الجيب الخلفي، وتمسكنا بالعارضة العلوية، ولم يفصلني عن جهيمان مسافة 40 سم، وجها لوجه، ثم أخذتنا السـيارة على وجه السـرعة إلى حيث يجلس الأمير نايف بن عبد العزيز -يرحمه الله.

وجه مغطى بالسواد

يواصل الأمير ناصر: كان وجه جهيمان مغطى بالسـواد، وشـعره كثيفا، ولم يتبين لي من وجهه سـوى عينيه المحدقة بي، لم تكن المسـافة طويلة إلى حيث نتجه، ولكن كانت كافية لأسـأله السـؤال الصعب، وهو لماذا قمت يهذا الفعل؟، ولم يستغرق طويلا ليجيبني بأنه لو قدر له لأن يفعلها ثانية لفعل، وظهرت عليه سـمة الإحباط، ربما لأنه رأى صنمه يتحطم أمامه ليلة البارحة، بموت المهدي المزعوم، وأن اعتقـاده به كان خاطئا. وصلنا إلى مقر الأمير نايف، وكان جالسا بمدخل أحد المباني المطلة على الحرم، وأمامه صفوف من المقاعد ليجلس عليها كل من استسلم للتحدث إليه. أوصلنا جهيمان ومن معه إلى الأمير نايف، أمر بإجلاسهم، وسألهم إن كانوا يريدون شـيئا، فطلبوا ماء، أمر الأمير بإحضار فورا، وقام أحد الضباط الموجودين بتقديم الماء لهم، لكنهم رفضوا استلامه منه، قائلين لا نسـتلم من يد كافر!.. هكـذا، وعلتهم في ذلك أن كل جندي يخـدم الدولة يعتبرونه كافرا، ولذا قام أحد المدنيين بتقديم الماء لهم. بعد ذلك عدت لمهمتي قرب باب أجياد، وفي مسـاء ذلك اليوم تم استسلام عدد من أتباع جهيمان، ولكن أكثرهم ربما لم يعلم عن خروجه، واسـتمروا بالمقاومة تحت الضغط الشديد عليهم من القوات المهاجمة، التي لم تترك لهم فرصة لمعرفة ما جرى. فور وصول القوات إلى ما بعد باب العمرة والسيطرة التامة على ما قبل ذلك، تحركنا إلى الجانب الآخر، لما بين باب الصـفا إلى باب الملك، لتبدأ المرحلة الرابعة، واستـغرق العمل هناك وقتا أكثر من المتوقع بسـبب عدد من الانحناءات في الممرات، إضافة إلى وجود خندق مجرى الصـرف المكشـوف، وقد تم اسـتخدام تلك العوائق اسـتخداما جيدا من قبل أتباع جهيمان.

سعود الفيصل في الحرم

يوضح الأمير ناصر: تسبب ذلك في بطء تحرك القوات، لذا اسـتدعى الأمر أن نقوم بالتحرك من الأعلى، بالتنسـيق والتزامن مع حركة القوات بالأسـفل، خطوة بخطوة. كان الخناق يشـتد أكثر بالتدريج على أتباع جهيمان، نظرا لتقلص المسـاحـة المتاحـة لهم، ووقوعهم في كماشـة القوات المهاجمة من الجهتين، وأصبح دفاعهم أكثر شـراسـة، وتمترسـوا في المناطق الإدارية الخاصة بمكتبة الحـرم، تحت باب الملك، لذا عند وصول القوات إلى قرب باب الملك توقف الهجوم للمحافظة على ما تمت السـيطرة عليه والتحضير والاسـتعداد للمرحلة الخامسـة والنهائية.

خلال ذلك النهار دخل علينا الأمير سـعود الفيصل -يرحمه الله-، وزير الخارجية، وكان المسـؤول الحكومي الوحيد الذي زارنا داخل الحرم أثناء العملية، وكان الهدف من الزيارة سـؤالنا عن سـير العملية وتوقعاتنا عن الزمن المحدد لانتهائها، لإبلاغ القيادة بذلك، وأخبرته عما تبقى من مهمتنا، واليوم المتوقع للانتهاء.

في نهاية ذلك اليوم 14 محرم 1400هـ أصبح أتباع جهيمان محصورين بالمنطقة الواقعة ما بعد باب العمرة، وأمامهم قوات الجيش، وإلى ما قبل باب الملك من جهة الصفـا، وأمامهم قوات الحرس الوطني.

وبدأت القوات تقترب من بعضها، لذا رسـمت خطة ذلك المسـاء، وأطلعت القوات من الطرفين عليها وأسـبابها وأهدافها، وقد ارتكزت الخطة على وضع خط وهمي داخل القبو لتحديد منطقة الاشـتباك ونهايتها لكل قوة، بحيث يتم اشتباكها مع أتباع جهيمان دون أن تتعدى هذا الخط، وحتى لا تحدث إصابات ما بين الطرفين سـببها أحدهم، خاصة وأن المكان مظلم ومليء بالأدخنة، وحتى يتحقق ذلك قمت وزملائي بحفر ثقوب فوق سـقف القبو على ذلك الخط الوهمي، وعلى مسـافة لا تتعدى 50 سم، ما بين الثقب والآخر، وقد بلغ تعدادها قرابة المائة ثقب.

وطلبت تأمين مائة ماسـورة بقطر أربعة بوصات، وأن يكون بها ثقوب عدة على أجنابها وعلى طولها، لغرض إدخال إضاءة بداخلها، كما طلبت تأمين سـرية من الجند لتكون متواجدة في صباح اليوم التالي، وطلبت أن تقوم شـركة الكهرباء بإعادة التيار الكهربائي للحرم في الصباح الباكر. وتم الاتفاق مع القوات على أن يتم إسـقاط المواسـير من خلال الثقوب في الصباح، واتفقنا على أن يكون ذلك في تمام الثامنة صباحا، وأن تكون هي سـاعة الانطلاق النهائي للقوات. قضينا الليل كله في عمل الثقوب، وقد اخترنا لهذا الخط أن يكون في منطقة انكسار القبو بزاوية كبيرة لتفادي وصول الطلقات الصادرة من أي قوة إلى الأخرى، واسـتلمنا المواسـير قبل الموعد، وأدخلنا بها مصابيح الإضاءة، لغرض بيان مكان الحاجز عند إسـقاطه من خلال الإضاءة بالماسورة، والتي يصعب على المقاومين تدمير إضاءتها بسهولة. وبإسـقاط المواسـير أيضا كنا نهدف إلى إرباك حركة المقاومين، والحد من حركتهم من جهة لأخرى، وأن تكون خط النهاية الواضح لجميع القوات.

توزيع المواسير

يسترسل الأمير ناصر: في تمام السابعة صباحا يوم 15 محرم 1400هـ كان كل شـيء جاهزا، وتم توزيع المواسير على أفراد السـرية العسـكرية، بحيث إن كل ماسـورة يمسـك بها اثنان من الجنود، ويبقونها بوضع رأسـي أمام ثقب من الثقوب، وعند إعطاء الإشـارة يتم إسـقاط المواسـير دفعة واحدة من خلال الثقوب.

قاربت السـاعة على الثامنة صباحا، ولم يظهر مندوب شـركة الكهـرباء حسب ما اتفق عليه، ولم يتم إعادة التيار الكهربائي إلى الحـرم. فأكثرت الاتصالات لأسأل عن سـبب ذلك، وكان الأمير سـلطان بن عبدالعزيز يتابع كافة المحادثات اللاسـلكية بين القـوات، وقد قام بالتدخل على الفور، وأمر بإحضار مدير شـركة الكهرباء بمكـة إلى حيث نحن، ولم تمض دقائق حتى كان معنا، ولكن ذلك تسـبب في تأخير ساعة الصفر، ولحظة الانطلاق المتفق عليها، لذا تم الاتفاق على موعد جديد للانطلاق، وهو السـاعة التاسـعة صباحا، بتأخير سـاعة عن الموعد المحدد. وعندما تم توصيل التيار الكهربائي اصطف الجنود بمنظر عجيب، وهم يمسكون بالمواسـير في حالة اسـتعداد، وبتمام التاسـعة يوم 15 محرم 1400هـ، قمت بإعطاء الإلشـارة للجنود لإسـقاط المواسـير عبر الثقوب، وبنفس اللحظة بدأت القوات بالاشـتباك مع أتباع جهيمان داخل القبو، ومن الجهتين، هذا يمثل المرحلة الخامسـة والأخيرة من عملية المطاردة. معركة على جبهتين يبين الأمير ناصر: بدأت المعركة على محورين ما بين باب العمرة وخط النهاية الذي تم الاتفاق عليه، تدور المعركة بين قوات الجيش وأتباع جهيمان الذين تم حشرهم في هذه المنطقة، وما بين منطقة الصفا وخط النهاية تدور بين قوات الحرس الوطني، ومن تم حشرهم هناك من أتباع جهيمان.

كانت الاشتباكات عنيفة داخل القبو، وكان لا بد لنا ونحن فوق سطح القبو أن نتفاعل مع حركة القوات بالأسفل، وبناء على طلب كل جهة كنا ننتقل إلى فوق المنطقة المستعصية بالتنسيق مع القوة لتحديد المكان، ونعمل على طرد أتباع جهيمان من مخابئهم أو منطقة التسـتر.

وحدث أن توقفت قوات الحرس الوطني عن التقدم بسـبب مصادر للنيران لا يمكنهم رؤية مصدرها والسـيطرة عليها، وتصدر من جهة خندق تصريف السيول، وداخل هذا الخندق يتم الاختباء والحركة بسهولة. اتصل بي قائد القوة، وطلب مني المسـاعدة لطرد المتمترسـين داخل الخندق من أماكنهم؛ ولأنه لم يسـتطع حينها تحديد المكان على المخطط، فقد اضطررت أن أنزل معه إلى القبو للتعرف على الموقع. صـرنا نقفز من عمود إلى آخر، لنحتمي بها، حتى قربنا إلى موقع التمترس، فأشـار إلى الموقع، وعندما تعرفت على الموقع بالمخطط خرجت من القبو وسـارعنا بالعمل فوق تلك المنـطقة لنحرمهم من القدرة على التمترس داخل الخندق، واسـتمر الأمـر على هذه الحال، ونحن نتنـقل مع القـوات من جهة إلى أخـرى، وحسـب طلبهم لتقديم الدعم اللازم. بعد عصـر ذلك اليوم كان أتباع جهيمان قد تم حشـرهم في منطقة صغيرة، قرب خط النهاية، ومن الجهتين، من جهـة الصـفا تمترس المتمردون في الغرف الإدارية الخاصة بمكتبة الحـرم، تحت باب الملك، وبسـبب صعوبة المكان فقد اسـتغرق الأمر من قبلي وزملائي وقتا أطول للمناورة فوق أسـقف تلك الغرف، حتى تم القضاء على بعضهم من قبل القوات واسـتسلام البعض الآخر، ونظرا لكثافة إطلاق النار والمتفجرات من الجانبين فقد اشتعل جزء من مكتبة الحرم.

خط النهاية

يختم الأمير ناصر: بحدود من نصف الليل لمسـاء اليوم تم التقاء القوتين عند خط النهاية، وبهذا انتهت العمليات وأعلن الانتصار، ولم يبق إلا تفتيش المكان، والتأكد من خلوه تماما من أتباع جهيمان. حينها شـعرت بأنني متعب، وقمت وزملائي المنهكين بمغادرة الحـرم لنمضي إلى الفندق لنغتسـل ونأكل وننام، وقد غمرنا شـعور عظيم بالسـعادة لما قمنا به، وما تم من نصـر على فئة ضالة باغية، حيث كان لنا شـرف المشـاركة بهذه المهمـة. في صباح يوم 16 محرم 1400هـ، كان كل شيء قد انتهى بالسيطرة التامة على كافة أرجاء الحرم.

ـ تنسيق عال بين الأشغال الهندسية والقوات يضيق الخناق على أتباع جهيمان.

ـ جهيمان يخرج مستسلما مع ثلاثة من أتباعه.

ـ سعود الفيصل المسؤول الحكومي الوحيد الذي زار الحرم خلال احتلاله.

ـ خطوط نهاية حددت لكل قوة مواقع اشتباكها منعا للتداخل.

ـ مكتبة الحرم تشهد الفصل الأخير للاحتلال.

* لقراءة الحلقة الأولى من هنا

* لقراءة الحلقة الثانية من هنا


الوطن السعودية