أخبار عاجلة

د. محمد مصطفى الخياط يكتب: عادة صباحية «قصيدة قصيرة»

د. محمد مصطفى الخياط يكتب: عادة صباحية «قصيدة قصيرة» د. محمد مصطفى الخياط يكتب: عادة صباحية «قصيدة قصيرة»

اشترك لتصلك أهم الأخبار

أسبوعان وهى تأتى كل صباح لتجلس قبالته من الساعة العاشرة حتى يرتفع صوت المؤذن لصلاة الظهر، عندها تنهض وتنفض ثيابها الغالية، تجفف ما علق من دموعها، تلملم حاجياتها؛ هاتفها المحمول، وعلبة المناديل، وزجاجة المياه وترحل فى صمت.

كانت عندما تجلس تنظر نحوه وتطلق تنهيدة عميقة، ثم تسحب مصحفها من حقيبتها الجلدية الأنيقة وتأخذ فى القراءة، يتدلى من خيط قراءتها الصامت قطرات دموع، وفى الفواصل تطيل النظر نحوه حيث يتوارى خلف جدار قبر حديث العهد تتكئ عليه حزمة زهور تتخللها أعواد خضراء.

فى كل صباح، تنتظرها أم سميرة بجسدها الممتلئ ككيس قطن وابتسامة باهتة تكشف عن أسنان قصفها الإهمال والمرض، تناولها حزمة الورد بيمناها، وتتناول الثمن بيسراها، وتنثر عليها الدعوات مع مصمصات شفاه شققها الحزن، وهزات بطيئة من رأسها المعصوب بطرحة سوداء كالحة.

عن بعد، وقف الولد المعتوه يعلوه طبقة من تراب، لا تعرف ملابسه من بشرته. خلاف الآخرين نظرت نحوه فى مودة، شجعه هدوؤها على الاقتراب منها بضع خطوات، فيما سرحت ببصرها صوب القبر تناجيه فى سرها. اقترب أكثر حتى جلس غير بعيد موليًا شطره نحوها وناظرًا بعينيه فى الاتجاه الآخر، كأنما يختبئ منها. أشارت إليه كى يقترب فلم يتحرك. فتحت حقيبتها ومدت يدها نحوه بزجاجة عصير. زاد خجله وقبض بيسراه على يميناه. نادت عليه وربتت على الأرض برفق كى يقترب. زحف نحوها ببطء فيما بقى ينظر للجهة الأخرى.

ضم ساقيه إلى صدره. خبأ وجهه بين ركبتيه. نظر بطرفى عينيه المحمرتين إلى ذراعها المعلق فى الفراغ. فتحت علبة العصير وابتسمت فمد يده المتربة وأمسك الزجاجة بتوجس وراح يشرب فى جرعات صغيرة وسريعة. سحبت منديلا مبللًا وراحت تنظف وجهه، فاكتسى بلون الأرض، جذبت واحدًا آخر وكررت صنيعها. بدا مستسلمًا كقط أليف مطمئن إلى صاحبه. كانت تحدثه ولا يرد عليها حتى عندما ناولته فى اليوم التالى كيس بلاستيك منتفخا ثم جمعت حاجياتها وانصرفت. اكتفى بالنظر نحوها حتى غابت والكيس معلق فى كفه.

تصطف المقابر على الجانبين، أغلبها مغلق وقليلها مفتوح ينتظر أصحابه فى ملل. نظر الولد حواليه. مد بصره فى الممر. بدا أنبوبًا طويلًا بلا نهاية. أطلق ساقيه للريح ثم مال ناحية اليسار وخرج من البوابة من دون توقف حتى انتهى إلى طريق أسفلتى يفصله عن مجرى النهر. توقف للحظات. يعلو صدره ويهبط. نظر فى الاتجاهين. اطمأن إلى خلوه من السيارات فعبره قفزًا.

جمع بعض أعواد القش وصنع منها لفافة بحجم الكف، وضع حجرًا فوق الكيس البلاستيكى المنتفخ خلف الشجرة القريبة. خلع جلبابه المتسخ وألقى بنفسه فى . غاص وطفا. دعك جسمه بالقش عدة مرات، وحك وجهه حتى أحمر وظهرت بشرته القمحية بلونها الحقيقى، ثم خرج من الماء وجفف جسده النحيل وراح يسحب قطع الملابس من الكيس ويرتديها واحدة تلو الأخرى. بدا غريبًا حتى على نفسه.

على باب حوش بيتهم المطل على المقابر راح يتطلع إلى السماء ويرقب حركة قرص الشمس نحو المغيب. لأول مرة تعجل قدوم الليل وولادة الفجر بين يديه. كم من ليلة قضاها ضجرًا مبرمًا يطارد الملل حتى يهده التعب وينام، وعندما يستيقظ يجد نفسه مرة ممدًا على رصيف ومرة مكومًا فى زاوية المسجد، وثالثة منكمشًا فى مدخل منزل.

فى تلك الليلة، بات ينتظر الصباح بشغف ولهفة حتى سلبه النوم وعيه. استيقظ بعد أذان الفجر بقليل، تطلع إلى خجل قرص الشمس وتعثره فى ضباب الصباح، نهض وغسل وجهه، نظر فى المرآة المكسورة وابتسم، تصور أنه يتعرف على شخص غريب عنه، خرج وجلس على باب المدفن منتظرًا قدومها من بعيد، لمحها تتناول حزمة الورد من أم سميرة، هَلّ نحوها، بادرته بابتسامة وأفصحت عيناها المتسعتان عن دهشة.

قلبت عينيها فى وجهه القمحى الدقيق وملابسه النظيفة. فتحت ذراعيها ملء الأرض والسماء، ارتمى عليها وتعلق بخصرها، مسحت شعره، وربتت ظهره فى حنان أم، نظر نحوها بعينى طفل يتسول الحنان، سقطت دمعتان ساخنتان على وجهه، فيما كانت عيناها تنظران نحو ابنها النائم خلف جدار القبر ينتظرها كعادته كل صباح.

mohamed.elkhayat@yahoo.com

المصرى اليوم