أخبار عاجلة

سعيد عثمان يكتب: لوحةٌ وفرشاةٌ وفنان (قصة قصيرة)

سعيد عثمان يكتب: لوحةٌ وفرشاةٌ وفنان (قصة قصيرة) سعيد عثمان يكتب: لوحةٌ وفرشاةٌ وفنان (قصة قصيرة)

اشترك لتصلك أهم الأخبار

وحيدا وحيدا، عند سفحِ الجبل.. يخطو بخطواتٍ كهلةٍ، لكنها عجولة متسارعة.. بحماسٍ وجِدٍّ؛ ينفضُ الحصواتَ من تحت خطواتهِ المتعبة.. وبجذعٍ منحنٍ من حمولته؛ يستكمل الطريق. على ضفافِ بركةٍ صغيرةٍ للمياهِ توقف.. مدَّ رأسَه ينظرُ إلى الأفقِ البعيد.. تحت ظل شجرةِ توتٍ عجوزٍ موغلة فى القدم؛ تخيَّر فى المكانِ موضعه.. شاردَ الذهن، حدق طويلا إلى حبات ثمارها الحمراء؛ وكأنما يستدعى أسطورةً قديمةً من قعرِ الذاكرة. تخففَ من حمولته، وانتظرَ قليلا حتى تهدأَ أنفاسُه اللاهثة.. مسحَ عرقه وانتصب.

بعد طولِ مسيرٍ فى تلك الرحلة الطويلة المنهكة؛ استقام ظهره وانفرد عوده. من جديد طالع المكان، ثم أغلق عينيه يستدعى الحلم القديم من بين طيات الذاكرة.. مُذ فارقته الحبيبةُ لم تطأ قدماه المكان.. عقودٌ طويلةٌ مضت، شابَ الشعرُ فيها ونحلَ الجسد.. لكن ما امّحَتْ الذاكرةُ، أو طوتها مخالب النسيان. بمهارةٍ أقامَ مسندَ مرسمه.. بحرصٍ شدَّ القماشَ وعلى إطارهِ الخشبى ثبته.. وها هو يرفع رأسه وينظر بإمعان إلى الأفق الممتد.. تلمع عيناه ببريق رضى لم يعهده.. يا له من موقعٍ فريدٍ لفنانٍ يعشق النحت والرسم.. «ما الفن سوى اصطحاب واقع وتفاصيل».. هكذا دأب أن يردد ويقول. لكن مع تلك الظلال الهامشية والأضواء المتأرجحة؛ ربما تجنح بريشته هذه المرة إلى التعبير والتصوير. «لا بأس فى هذه اللوحة الأخيرة؛ من بعضِ المشاعرِ والأحاسيس.. لكن بقدَر.!». من هذا المكان: سيرسم لوحتَه الأخيرة. «أفرعٌ خُضرٌ طويلةٌ باسقة، وباقاتُ زهورٍ تفتحت وأينعت، ونحلاتٌ لا تسأم الغزل بمياسمَ رشيقةٍ لعوب.. ونسائم؛ تعزف الفراشاتُ على أجنحتها أجمل الألحان، بأجمل الطيوفِ والألوان».

فى لوحته الأخيرة التى لن يعقبها لوحات: «سيرسم زقزقةَ العصافير.. وصوتَ ناى حزين.. وعينَ ماء.. وخريرَ الشلال حين تنزلق المياهُ فوق صخورهِ الناعمة التى لونتها الطحالبُ والزمن». «سيرسم النسائمَ وألوان الفراشات، وطيورا ترفرف بأجنحة.. سيرسم لونَ الضياء.. وشمسَ الشروقِ، وهى تخطُّ طريقَها المعهود فى الأفق البعيد للسماء». من جديدٍ أخذ ينظر إلى المكان.. بعد طولِ تحديقٍ فى الأفق صار يحدقُ فى اللوحةِ الفارغة.. يفكر فى كل البدايات والنهايات.. وها هو ذا قد حدد البداية والمضمون، وبأنامله النحيلة يشير.. «هنا: سيرسم عصفورا يناجى خليلته.. سيُنطِقهُ شدوا، ويرسم لمعانَ عينيه.. وهناك: ستكون تلك الشجرة الكبيرة فى حضن الجبل.. بجذعها الموسوم بقلبٍ، وسهمٍ، وحرف.. أما هنا: فسيرسم ذلك الشلال بفقاعاته البللورية المتناثرة.. وشَعراً طليقا، وثوبا مبتلا يعانق حنايا الجسد.. وضحكات طفوليةٍ بريئة.. وهمساتِ عشقٍ حنون دافئة».

«وما بين خضرة الأوراق، ولون الفراشات والزهور المتناثرة؛ سينقل الجمالَ إلى لوحته.. يهبها الوجود والحياة والخلود..». «ستكون لوحتُه الأخيرة: أجمل اللوحات..». بعد نظرةٍ طويلةٍ أخيرة، لكنها ليست أخيرة؛ أغمض عينيه للحظات.. يحفرَ فى ذهنهِ كلَّ التفاصيل، فلا تفر سريعا من الذاكرة. بأطراف أناملهِ احتضنَ الفرشاةَ.. بحُنوٍّ، غمسها فى قنينةِ الألوان كما قُبلة محبٍّ ولِهٍ.. ثم.. ثم بدأ يخطُّ الخطوطَ، ويملأ الفراغات. خطوطٌ.. وفراغاتٌ.. وألوان. كما زهرةٍ يافعةٍ حين تداعب بتلاتِها النسائمُ العابثة؛ انتابه حماسه المعهود، واعتملته الأحاسيس القديمة.. وها هى الفرشاةُ وقد أسرتها طيوف الذاكرة؛ تتراقصُ بين أنامله، تغترفُ من داخله.. وبدفءِ روحهِ، وتسارع أنفاس عمره المديد: ترسمُ لحنَه الأخير. استغرقته اللحظة تلو اللحظة.. فما احتاج أن يرفع رأسَه عن لوحتِه، حتى الدفقة الأخيرة المكملة. تسافر الشمسُ حثيثا حثيثا فى السماء، تعاوِدُ رحلتها الأبديةَ الخالدة.. تنكمشُ الظلالُ.. تدورُ.. ثم تطولُ من جديد. تعانقُ التربةَ الحُبلى، وتكمل الدائرة.

للمرةِ الأولى بعد ساعاتٍ رفع رأسَه عن لوحته. أخذ نفسا طويلا، وكأنه يستنشق الكونَ كلَّه دفعةً واحدة.. إلى الوراء تراجع خطوة.. بزهوٍ أخذ ينظر إلى الأفق.. يحتضنُ فى مقلتيه كلَّ المناظر الجميلة.. ويبتسم. من بين شقوقِ الوعى الغائب خلف الغيوم والسحب: تنتفضُ الذاكرة. يحدقُ من جديدٍ فى لوحته.. يدققُ النظر.. يرتجف.. يرفعُ الرأسَ مشدوها.. مقطّبَ الجبينِ ينظر بدهشة إلى جارته. سيدتى.. ماذا فعلت الفرشاةُ بلوحتى الجميلة؟ تنظر السيدةُ الجميلةُ إلى اللوحة.. ثم تبتسم!. «بحرٌ مائجٌ هائجٌ.. وأمواجٌ فائرةٌ وزَبد.. وأفقٌ بعيدٌ يمدُّ أشعتَه الأرجوانية لشمسٍ غاربةٍ فى نزعِها الأخير.. تحتضن الوجودَ قبيل اختناقات الغرق. وقاربٌ خشبى قديمٌ تتقاذفُه الأمواج.. ويدٌ نحيلةٌ متعبةٌ لرجلٍ عجوزٍ أصابه الإرهاقُ والبلل.. تقبضُ الأكفُّ بقوةٍ على مجدافٍ صغيرٍ قصير.. بإصرارٍ ينافح الرحيل.. يستجدى الكون ويتشبث بالوجود.. يحاولُ جاهدا وسط غضبةِ اليَمّ وأمواجه العاتية؛ أن يصل إلى تلك الجزيرة الصغيرة المجهولة النائية، قبل أن يطويه الموج، ويبتلعه جوف العتمة القريبة».

لوحةٌ وفرشاةٌ وفنان. خطوطٌ وفراغاتٌ وألوان. جبالٌ وغاباتٌ، وبحرٌ هائجٌ، وأمواج. وقاربٌ خشبى بمجدافٍ صغير. وشمسٌ تشرقُ تشرقُ.. ثم تغيب. تحتفى السحبُ بالمغيبِ كلَّ مساء.. ترتدى حُمرةَ ألوانها الساحرة وقتَ الغسق.. تتوارى الظلالُ فى الترابِ، وتكِنُّ الطيورُ فى الأعشاش.. وتحمل أجنُح النسيمِ عطرَ وعودِ العشاقِ باللقاء. لكن نسائمَ الغروبِ عند السفحِ هذا المساء، قد خلت من همسات وعودٍ.. ومن خفقات أجنحة. قبل أن يجمع أشياءه المتناثرةَ استعدادا للرحيل؛ مدَّ كفيه فى البركةِ القريبة، كى ينهلُ نهلةً صغيرةً من مياهها الرائقة، علها تدفع عنه هذا الشعور المفاجئ بالظمأ.

طريقُ العودة طويلٌ طويل، والعتمةُ أوشكت.. لكن النفسَ الكهلة كليلةٌ عليلة، والجسدُ مرهقٌ: نهلانَ قد هزمته السنون، وهدَّهُ التعبُ والنصب. فوق التربة المبتلة جلس ينشد راحته، أسند الرأسَ إلى شجرة التوت العجوز الموغلة فى القدم.. خيالات وظلال وطيوف.. ورجفة ظمئ تجتاح الجسد.. وبينما الطيوف والأرواح المحبة قد تحلقت حوله وتجمعت؛ تلاحقت أنفاسُه وتباعدت. قبل أن يغمض العينين للمرة الأخيرة، نظر إلى الصفحةِ الساكنةِ للمياهِ.. رأى صورتَه.. وسيدةً جميلةً.. تبتسم.

المصرى اليوم