أخبار عاجلة

إنشراح ليست السّتّ أمينة: قراءة في رواية «١٠٤ القاهرة» لـ «ضحى عاصي»

اشترك لتصلك أهم الأخبار

بقلم الدكتور إبراهيم منصور

يجلس حسن في المأتم متعجبا غاية العجب من الأضواء المبهرة الساطعة في جامع عمر مكرم، ومن هؤلاء السادة الكبار يتوافدون على مكان العزاء من أجل «انشراح» زوجته المتوفاة، إنه أسطى «منجّد» اعتاد أن يراوغ الزبائن حين تنفد النقود التي دفعوها عربونا للأطقم، ينفق حسن الأموال على المقهى، ثم يشرع في التغطية على ورطته بمزاعم حول أصوله العائلية المنتمية للشيخ «حسن طوبار» خصم الحملة الفرنسية العنيد.

كانت «انشراح عويضة» تعيش في القاهرة، في منطقة اسمها الكلحة، حي أو حارة توصف بأنها لا يعلم مكانها على الخريطة إلا الله، ذات يوم تحاورت انشراح مع صديقتها ناهد، عن الرجال، والرجال «المتعلمين» فقالت:

«ها كلمك بلغة الصنايعية لا مؤاخذة دخلت بيوت كتير منهم اشتغلت عندهم شفتهم من جوه وطلعوا أونطة، بِدَل منفوخة على الفاضي، ضُعفا أكثر مما تتخيلي، خايفين ومهزومين، خايفين على الفلوس، وخايفين على المناصب، وخايفين على شكلهم، كل حاجة بيعملوها بحسابات، حسابات آخر حاجة فيها – ويمكن ما تجيش أصلا- الإنسان اللي جواهم اللي يمكن حتى مات، وهُمَّ مِشْ واخدين بالهم، مايتخيروش عن حسن الجاهل، الجهل جهل الروح»

انشراح هي بطلة رواية «١٠٤ القاهرة» للروائية ضحى عاصي

لا تتحدث انشراح عن زوجها حسن إلا نادرا، ولا يكون حديثها باللغة العامية دائما، بل هي متحدثة لبقة بالفصحى في حياتها الأخرى، حين تنام في فراشها، حياة تعيشها مع أشباح، مع زائر ليلي مواظب، يغير هيئته، ولا يتبدل اهتمامه ولا احترامه ل«انشراح»

ذات يوم ظهر الزائر الليلي في صورة حسناء بقوام فرنسي، وتحدث إلى انشراح وهي في سن الثامنة والخمسين، فحكى لها أسطورة «ألوبا» وهي امرأة عجوز تعيش في كهف وأنها كانت تجمع عظام الذئاب وتغني لها فيكسو اللحم تلك العظام، وترد فيها الروح، وحينئذ تعود العجوز شابة جميلة.

سيشرح الزائر الليلي سبب ذكره لهذه الأسطورة على مسامع انشراح، فقد كانت انشراح وقعت في حالة حب نادرة، وكانت بحاجة إلى فهم ما جرى لها، في تلك السن العالية، فجاءت أسطورة «ألوبا» أي الحكمة لتقول لنا إن انشراح ليست امرأة عادية، فهي تعيش في الكلحة، حيث الفقر والزحام والظلم، لكنها تملك حكمة السنين التي تنشأ من تراكم الخبرة، طبقات من الحكمة من زمن القاهرة الطويل، والحكمة ليست مكتسبا مستجدا كونه فرد عصامي مجتهد، بل ثروة موروثة متراكمة، من عهود وأزمان ربما من منف وطيبة قبل القاهرة نفسها. حكمة المرأة المصرية قد سكنت في قلب امرأة.

ولدت انشراح عام ١٩٥٢م، وعاشت ٦٠ سنة، كانت تعيش مع أمها «حياة» وجدتها «نرجس» وتعلمت منهما، قراءة الفنجان، والوصفات الشعبية من أجل الحب، ومن أجل إزالة الهم، وإبعاد النكد، أما والدها فلا تأثير له عليها، فقد كان هلّاسا، تاجر مخدرات، وقيل أنه تاجر في العاهرات أيام الاحتلال الإنجليزي، لم تكمل تعليمها النظامي، لها أخت اسمها «بيسة» من أم أخرى هي «فاطمة» الراقصة في شارع عماد الدين، انشراح أحبت إبراهيم الذي سافر ونسيها، ولكنها لم تنس حبها له، ثم كان أن تزوجت من حسن الذي يصغرها بنحو عشر سنوات، ولها منه بنت هي شيماء، حسن لا يجيد فك الخط، ضعيف الشخصية حشاش. أما الدكتور أشرف المثقف الثري المشهور النبيل، فقد أحبها حين رآها من المرة الأولى، تعلق بها كما تعلقت به، ثم كان أنها رفضت فورا أن تتواصل معه لأنها هي الأخرى أحبته حبا لا مزيد عليه، فلما أحبته جعلت من حبه معادلا لحبها الذي فقدته قديما، مع إبراهيم الذي غدر بها تركها ونسيها تماما.

مؤلفة الرواية هي الكاتبة ضحى عاصي (عضو مجلس النواب للدورة الحالية) مولودة في ٢٢ يونيو ١٩٧٠م في مدينة المنصورة، أول ما نشر لها مجموعة قصصية بعنوان «فنجان قهوة» عام ٢٠٠٣م، ورواية «١٠٤ القاهرة» هي روايتها الأولى، صدرت أول مرة عام ٢٠١٦م.

تتعدد الشخصيات في الرواية بين نساء ورجال، إنهم ٢٥ شخصية، لكنهم جميعا يدورون حول انشراح كالحلقة لا ندري أين طرفاها، أما انشراح فهي صامدة في وسط المحيطين بها المحبين لها والكارهين، المؤيدين والمناوئين، سقطت بعض الشخصيات من حياة «انشراح» بالوفاة، مثلما حدث لأبيها، ولجدتها ولأمها، لكن بعض الشخصيات أجبرت على الرحيل مثلما حدث لآرام أنوش التي تعني بالأرمينية «المربى الحلوة» التي مات زوجها «بيريان» حين طلب منه أن يغادر ، أيام عبدالناصر، فلم يتحمل فكرة الرحيل.

لم يسقط «إبراهيم الدريني» من ذاكرة انشراح أبدا، فهو حبيبيها الغدار الذي سافر لكي يحصل على الدكتوراه من فرنسا، وتركها فانتظرته عشر سنوات، فلما يئست تزوجت من ابن أخته حسن الذي يصغرها بعشر سنوات. لكن النساء في الرواية سيكون لهن الحضور الأكثر تأثيرا وسنرى العالم من خلال عيونهن، ونعرف عن الرجال كل ما خبأته المظاهر والأكاذيب والسقوط الناتج عن الضعف النفسي والأخلاقي على السواء.

هناك رجل واحد كان قريبا من انشراح هو أخوها «سيد» الذي كان يعمل بحرفة النجارة في حي الدرب الأحمر، وحقق نجاحا كبيرا، لكن زوجته «ليلى» استولت على عقله وعلى أمواله، وملكت مصيره كله، حتى أنها حالت بين انشراح وقلب أخيها، ستكون ليلى خصما مناوئا لانشراح، لكنها من ناحية أخرى شخصية نسائية مسيطرة وهي مثال للطبقة الجديدة، التي صنعتها السياسة الاقتصادية بعد حرب أكتوبر، مال كثير، وتدين مكذوب سطحي، وتنكر لكل القيم التي نشأت عليها الأسر الفقيرة.

ثلاث نساء سوف تمارس عليهن انشراح تأثيرا طاغيا، الأولى «ناهد الرزيقي» ابنة أستاذ القانون المتهم باحتراف تفصيل القوانين «ترزي قوانين» سوف يتزوجها شاب صعيدي وصولي هو «مجدي الليموني» الذي يعمل أستاذا جامعيا وتاجرا، وقد أهملها حتى فقدت ثقتها في نفسها وكادت تضيع ضياعا نفسيا. والثانية «غادة» ابنة المثقف اليساري الذي مات وترك ابنته مع زوجة لا تؤمن بمبادىء السياسة التي كان زوجها يعتنقها، فتزوجت الأم من شيخ مهاجر إلى ، ومن أجل المال كانت تعمل بالدعوة الإسلامية وتروج للأفكار السلفية، وقد ذهبت غادة ضحية تناقض اتجاهات الأم والأب، فدخلت في علاقتين عاطفيتين خطرتين للغاية. أما الثالثة فهي «منال» التي تزوجت «طارق» ابن ليلي وسيد، منال الجميلة الفقيرة، صنعوا لها زفافا باذخا وقدموا لها مهرا لا تحلم به مثلها، ثم أجهضوا حملها وطلقوها من زوجها الضعيف الفلتان، واستردوا الذهب، حتى لا ترث من ثروة الحاج سيد مليما واحدا.

هناك امرأة رابعة لن يكون لانشراح تأثير عليها، هي أختها «بيسة» التي عاشت في الأحياء الراقية وتعلمت في المدارس والجامعات الأجنبية، ثم اختفت، وحين ظهرت في نهاية السبعينيات كانت قد ارتدت النقاب واعتلت منابر الوعظ، والأدهى من ذلك أن تحيط بها الشكوك في علاقتها بمن قتلوا السادات عام ١٩٨١م.

ستبقى «انشراح» في الكلحة، الحارة الفقيرة المنسية، حتى تتم الستين فترحل عن الدنيا، لكنها لن تكون مثل «الست أمينة» بطلة ثلاثية نجيب محفوظ، لن تكون تابعة مطيعة مقهورة، بل هي في الرواية محور الأحداث، وبلسم الشفاء وخاصة للنساء، ولبعض الرجال مثل «عادل هيدرا» القبطي الثري الذي أحب غادة المسلمة ولم تتجاوب معه.

عاشت «انشراح» حياة عريضة حقا، وكان اتساع حياتها على النحو الذي أكسبها ثقة الرجال والنساء على السواء، بسبب ما امتلكته من قدرات «حيوية» وقوة «روحية» وعقل «كوزموبوليتاني» اكتسبته من تراثها المصري المتسامح، ومن ثقافة مدنية كانت اكتسبتها من المدرسة الابتدائية في الخمسينيات، ثم من ثقافة أدبية كانت حصلتها من الكتب ومن علاقتها بإبراهيم الذي كان يكبرها ويذهب إلى الجامعة وله نشاط طلابي، في آخر الستينيات، وأما المصدر الأصلي العميق لثقافة التسامح عند «انشراح» فهو التراث الشعبي بروافده من عادات وتقاليد، وموالد الأولياء، وممارسات دينية صوفية، فكانت الأحلام تتحول إلى «رؤى» و«كشف» واستبصار، وهي مفردات انبنى عليها السرد في رواية «١٠٤ القاهرة» التسمية التي ذكرتها «انشراح» في مذكرات كتبتها، وتشير إلى رقم سيارة دفن الموتى التي رأتها تنقل جثمانها إلى العالم الآخر، فكانت تنظر بعين الغيب، وتحس الأشياء وتعاين جانبا منها بما امتلكت من قوة نفسية، غير معتادة، هذه القوة النفسية سميت في السرد «فيريل» وسميت «سوماتي» وهي في كل الحالات كانت إيمانا راسخا بالإنسان وبالحضارة النائمة في اطمئنان تحت جلده عبر طبقات من الزمن والتجربة.

إن رواية «١٠٤ القاهرة» لا يمكن أن تكون الرواية الأولى إلا لروائية عبقرية حقا. ومجال دراسة هذا النص الروائي تتسع لتحليلات شتى، وسوف نجعل النص يتكلم عن هذه الشخصية التي ابتكرتها الروائية «ضحى عاصي» حيث جاء على لسان الدكتور «أشرف الدمرداش» المايسترو الوسيم المثقف الذي أحب انشراح وأحبته، فجلس في مأتمها، وقال يصفها «كانت انشراح امرأة قوية، قوية بما يكفي لكي تقاوم الواقع المر، أن تخلق منه حياة تحيك قصاصاته لتصنع منها شيئا يسترها، لكنها لم تملك ذلك النوع من القوة الذي يجعلها قادرة على تغيير هذا الواقع، وجدت لنفسها كل مبررات الوفاء، الصبر، فضّلتْ أن تعيش مع حسن حتى الموت»

ولأننا في إطار نص تخييلي سوف نجد السرد ينقل الحوار إلى «انشراح» نفسها، انشراح المتوفاة، لكي تخاطب أشرف المايسترو، فتطلب إليه أن يعزف لها على البيانو قطعة من اختياره، فيختار أن يعزف لها «نشيد الفرح» Ode to Joy فابنة الدرب الأحمر تريد أن تستمع إلى شعر «شيللر» وموسيقى «بيتهوفن»، تلك هي انشراح التي عاشت أمينة مع قلبها وعقلها وتراثها الوطني والحضاري، لكنها كما قلت لك إن انشراح ليست «الست أمينة».

* أستاذ النقد والأدب الحديث

د. إبراهيم منصور - صورة أرشيفية

المصرى اليوم