أخبار عاجلة

محمد فيض خالد يكتب: الفابريكا (قصة قصيرة)

محمد فيض خالد يكتب: الفابريكا (قصة قصيرة) محمد فيض خالد يكتب: الفابريكا (قصة قصيرة)

اشترك لتصلك أهم الأخبار

ما إن ينثر الصّباح نورهُ فى الأُفق، فتنفض القرية عَنْها أنفاس المَساء، التى لاتزال تسرى بين دروبَها الضّيقة، حتّى تنبعث رياح رخية، تتهادى من الحُقولِ القريبة، مُعلِنة تشوّقها لزوارها الجُدد من أبناءِ الكدّ.

تتناثر قطعان الماشية فى فوضى فوقَ الجِسرِ، ومن خلفها العِصيان تلهب ظهر المُتكاسِل منها، تتردد أنشودة الشُّروق فى ابتهاجٍ فوقَ الشِّفاهِ، تُجيب تحية الصّباح المُرتعش، أعترف بأنّ عشرات القصص داهمت عقلى القاصِر، ترانى أيممّ وجهى شطرَ المَشرِقِ المتسع، تَدبّ النّشوة فى قلبى الهَامِد، أراقِب فى سَكينةٍ خيوطَ الدُّخان الفتية، تُداعِب قُبة السّماء الصَّافية تحتضن النّهارَ الوليد، بالتّأكيد هى بعيدة جدا، ولكنّ كثرتها أظهرتها قريبة، تقتحم الحقول فى عنفوانٍ، قصّ علينا «الحاج نَوّار» خبرها: هى سوداء مثل هِباب كوانين النّار، يعتمد فى إخراجها على مداخن عملاقة تمتد شاهقة، تنفثها بعيدا عن مبنى «الفابريكا» تُحرَق فيها فضلات القصب ومخلّفاته، لغلى عصيره وتحويله إلى سُكر.

مازلت أذكر يوما اغتمّت فيه قريتنا، نزفت العُيونُ من ينابيعِ الفاجعة، طَاَرَ الخَبر، إنّ «رافع» أحد شُبانها، سَقطَ صَرِيعا أثناء نوبة عمله فى صهاريجِ العَصيرِ المغلى، أتوا ببقايا جثمانه تَحتَ ضبابِ الفجر الخفيف ليدفنوه، يتَذكّر «مخيمر» الخفير لحظتها، يحكى والشّجن يَجِدُّ فى قلبهِ، ينظر بوجهٍ باسر، وأعصاب مهتاجة، وصوته يختنق: إنّ العَصير السّاخن أذابَ لحمه، ولم يبقه إلا عِظاما، فى إحدى الأماسى الصَّيفية البهيجة، هَبَطَ «الأفندى» علينا، عائِدا فى إجازةٍ قصيرة، أمضى قرابة عقدين من الزَّمانِ، يتولى مهام تسلم عربات القصب ووزنها، اقسَمَ بقبرِ أمه، إنّ «الفابريكا» مَرتَع لعُتاة العفاريت، تتلاعب فى ظلامِ ليلها الحَالِك بكُلِّ شىء، وفى هدأةِ اللّيلِ، وتحت جَنينِ القمر السّاجى.

أخرَجَ ساعته «أم كاتينة» من جيبِ سترته الكاكى، هزّها فى خُيلاءٍ، وعيناه تلَتمعُ، أسرّ لجلسائهِ فى نَبرةِ الواثق كعادتهِ: الآن أوان الوردية الثالثة، وأشارَ بيدهِ مُنصتا، تلِكَ صَافِرة قطار القصب يدخل «الفابريكا»، لا يمكن أن يُخلِف موعده، استدارَ الزّمان، بعد إذّ طوى الماضى فى جوفهِ، ذهبت للدراسةِ فى البَندر، هناك وعلى مَقربةٍ من «الفابريكا» مدرستنا، انتصبت مداخنها، راعنى شموخها، أخافنى ما تَقذِف من أدخنةٍ ثِقال، أرسلت الطّرف دونَ كللٍ فى الجوِّ مأخوذًا بها، تلتمع فى عينى حيرة الغريب، ومن آنٍ لآخر التمس الحِيلة، وفى غفلةٍ من الرُّقباءِ، أعتلى السَّطح، أتتبّع الأعمدة السُّود حين تلوّيها، على استحياءٍ أُلقى بخبيئةِ صَدرى لزملاءِ الصَّف، فلا أجد إلّاى معلقا «بالفابريكا» ونظرة شَذراء ترمينى بالبلاهةِ والجمود.

اُودِّعها فى طريقِ عودتى، وما أحسَب أنّه الوَداع الأخير، مُنذ أيامٍ، بَلغَ منى الوَجد مَبلَغه، خطرت ببالى أيّامها الخوالى، اشتَبَكَ بصرى بالأفقِ، اشتباكَ السَّيف بالسَّيفِ، لكنّه ارتدّ خَاسِئا وهو حَسير، تلاشت أدخنة «الفابريكا» هَمدت مداخنها، وتوقّفت صَافرة قطارها، كما تَوقّفت الحَياة عن مُتَعِها.

المصرى اليوم