أخبار عاجلة

سفيان صلاح هلال يكتب: كوكب الواقع فى رواية «خريف الجنرال» لـ«حمدى البطران»

سفيان صلاح هلال يكتب: كوكب الواقع فى رواية «خريف الجنرال» لـ«حمدى البطران» سفيان صلاح هلال يكتب: كوكب الواقع فى رواية «خريف الجنرال» لـ«حمدى البطران»

اشترك لتصلك أهم الأخبار

قرأت أكثر من عمل للكاتب الجنوبى الأستاذ حمدى البطران، هو كاتب يمتلك قدرة كبيرة على التأمل، ويستثمر سيرته الخاصة وما اكتسبه من خلال تجربته العملية فى نقد الواقع نقدا موضوعيا متفهما الدور الذى يمكن للمعارض الإيجابى أن يقوم به، لاقت روايته «يوميات ضابط فى الأرياف» احتفالا نقديا كبيرا، وهى رواية استطاعت توجيه النقد لمنظومة الأمن بواسطة أحد أفراد هذه المنظومة.. وأعتبر هذه الرواية «خريف الجنرال» جزءاً آخر مكملا لما بدأه الكاتب فى روايته سابقة الذكر، غير أن فى هذه الرواية، الهم العام يقتنص الراوى من الهموم الشخصية والفئوية ويغمسه فى الجموع، حتى إنك لا تجده يتكلم عن مشكلة له دون دمجها فى مشاكل شبيهة لمن حوله، وربما كانت أروع اللحظات تلك اللحظة التى التقى فيها زوال مجده كلواء سابق مع زوال مجد زعيم كبير كصدام حسين. لا يمكن الجزم بأن العمل سيرة ذاتية؛ فمن الصعب أن يبوح لواء شرطة صعيدى ورجل مجتمع بعجزه الجنسى الحقيقى، والذى وظفه كرمز على التخاذل الفردى مقابل التخاذل العام، كما لا يمكن استبعاد الاستفادة من تجربة الكاتب الشخصية، خاصة فى تلك التفاصيل التى يرى فيها الفرق فى ديناميكية المجتمع عبر مرحلتين: مرحلة كان فيها مسؤولا صاحب سلطة، ومرحلة صار فيها مواطنا عاديا. وفى الحقيقة هو وإن كان يرى منافع فى موقعه كسلطة، لكنه يرى أنها أيضا أعاقته عن اكتشاف الحياة بوجهها الحقيقى «فى الصباح لم أجد ما أفعله سوى الاستماع إلى برنامج يذيعه التليفزيون، كنت قد سمعت عنه ولم أشاهده قط، لم تتح لى ظروف العمل...» إن عمله الذى اندمج فيه عزله عن الحياة العامة؛ حتى إنه حين خرج بدأ يكتشف الحياة من جديد «فى الشارع رأيت أشخاصا أعرفهم منذ زمن بعيد، أراهم للمرة الأولى! وكانوا يصافحوننى ويسلمون على، كلهم من أقاربى...... بعد أن خرجت إلى الشارع العمومى، وجدت الشارع محفورا كله، كانت عملية السير صعبة وتتطلب مهارة خاصة لحفظ التوازن، الغريب أننى لم ألاحظ كل هذا فى المرات الماضية!»، يستغرق الكاتب مسافة طويلة فى الرواية وهو يعيد اكتشاف الحياة خارج دواليب العمل، بل حتى اكتشاف الناس داخل وخارج العمل، وإذا كان فى «يوميات ضابط» استطاع اكتشاف أن الحلول القانونية فى المجتمع هى مجرد شكليات وأوراق فى مجتمع له طريقته فى التعايش مع نفسه ومشكلاته وحلولها حتى إن المؤسسة نفسها بكل قوتها القانونية والتنفيذية تستعين بقوى المجتمع والتى لها قوانينها الخارجة عن القانون فى حل أزماتها، فإنه فى «خريف الجنرال» يكتشف أنه يتعامل مع تركيبة قوامها الندالة تحركها المصالح والعقد، وهذا ليس معه فقط من خلال زملاء العمل الذين تعالوا عليه لمجرد خروجه من الخدمة، أو أقاربه الذين كل همهم أن يظل فى منصبه ليقضى لهم حاجاتهم، إن المجتمع حتى مع رموزه الروحية يمتاز بالخسة، فالشيخ الذى منحهم قوة روحية لمواجهة محدثات الفواجع «فى أوقات الهدوء كانت القرية تنسى خدماته ولا تحفظ له الجميل، كانت تتركه يجوب شوارعها ليلا بمفرده بدون دليل من أهلها، صادفته مرات كتل الطين التى يضعها الفلاحون أمام بيوتهم لصنع قوالب الطوب ، فيدوس فيها الشيخ، وعندما يقترب من النهاية يدرك أنها ممتدة ولن تنتهى، فيعود راجعا مرة أخرى. ويعود إلى بيته وأكوام الطين عالقة بمداسه وجبّته، ويحدث أن يكون صاحب الطين واقفا أمام بيته وحوله أولاده يشاهدون الشيخ وهو يقطع معجنة الطين ذهابا وعودة، ويكتمون ضحكاتهم الساخرة». تتعدى الرواية المجتمع المحلى أيضا وتنفذ إلى قضايا الوطن العربى عامة فى عملية مزج فنى رائعة بين عمليات حيوية مثل الجنس والخبيز والطبيخ ومجريات الأحداث المحلية والفردية والعربية والعالمية، ففى حين كانت زوجته تخبز لهم ما يحتاجونه بعد ما تملص بائع الخبز من إرسال حصتهم بعد خروج اللواء من الخدمة، كانت القنوات التليفزيونية تقدم غذاء آخر يلهى الجمهور عن مشاكل حقيقية باستضافة دجالين يفسرون الأحلام ويتكلمون عن أعمال شعوزة فى وقت تدك فيه طبول الحرب دولا عربية.

غلاف الكتاب

«فتحت التليفزيون، فضائية عربية، ظهرت مذيعة ومعها رجل قصير، خيل إلى أنه قزم، لم تظهر الكاميرا كل جسده، كان يرتدى ملابس غريبة تشبه ملابس الأطفال، وبينهما منضدة، كانا صامتين ويستمعان باهتمام إلى صوت امرأة تتحدث وغير موجودة معهما». الغريب أن الذين كلموا الدجال والمذيعة ما بين شاكين انكسارات خاصة، أو هلاوس عامة، فدكتورة عراقية ومثقفة لدرجة أنها أستاذة إعلام تحلم بشارون يعطيها قلما!

عندما انتهت زوجتى من عملية خبز العيش البلدى، كانت منهكة. دخلت الحمام وخرجت، وشعرها ملفوف بالفوطة، ودخلت إلى غرفة النوم رأسا، كنت أنا أشاهد التليفزيون وكان المذيع قد أعلن أن الرئيس الأمريكى قد أمهل صدام حسين 24 ساعة لمغادرة بغداد هو عائلته، كانت رأسى وقتها تلف وتدور، فقد نقلت المحاطات الفضائية إنذار الرئيس بوش للرئيس صدام على الهواء مباشرة، وكان وجه بوش لا ينبئ عن جديته، كما كان يخلو من الصرامة المفترضة فى رئيس دولة على وشك إعلان الحرب.

- الغريب أن إحدى المحطات الفضائية نقلت على الفور صورة لأحد الزعماء العرب وهو يعلن أنه نصح صدام بمغادرة بغداد لأنهم لا يمزحون. (شعرت بخيبة أمل، ولم ألتفت إلى زوجتى وهى تعبر الصالة فى طريقها إلى حجرة النوم)، ولم أسالها كما هو المعتاد عن حكاية الخبز، كما أنها لم تحك لى هذا الأمر «إن النكوص الجنسى الذى أصاب الراوى كان معبرا عن خيبة الأمل فى الواقع العام المحيط، الواقع المشغول بتفاهات إعلامية، وانكسارات سياسية، وانصراف عن الاهتمام بالشأن العام والانغماس فى الفردية، وهنا يرحل الكاتب لاستخدام رمزية أخرى هى رمزية الطبخ، والطبخ فى لغة عامة المصريين له دلالات أخرى غير ما تعنيه الكلمة من إعداد لأنواع الطعام من عناصر مختلفة تعد بطرق معينة لها أسرارها فى مكان مخصوص هو المطبخ؛ لتخرج أكلات لها خصوصيتها، فقد درج أن يشير المصريون بهذه الكلمة إلى ما يخطط له سريا للوصول لغايات علنية فى السياسة والمجتمع، والكاتب فى إشارة للمطابخ العالمية فى السياسة يدمج بين سقوط سلطانه وسقوط الرئيس السادات وسقوط الزعيم صدام، فقد صار فى الفترة الأخيرة بتوجيه زوجته يجهز بعض أشياء المطبخ وكان فى نفس الوقت يستمع لبيانات الأخبار وفى نفس اللحظة يطرأ على عقله مصائر سابقة لرؤساء تخلصت منهم السياسة العالمية بطرق سرية مطبوخة جيدا».. هل صحيح أنا سأخرط البصل؟.

- وما فائدة المبشرة؟.

- المبشرة مثل المفرمة التى استخدمها السادات. (أى واحد يخرج على النظام أفرمه. أفرمه).

وفعلا فرم كثيرا، بطل الحرب والسلام. أول عربى ينتصر على الإسرائيليين، عبر القناة، وقلب المعايير، وكان لابد أن ينتهى دوره بعد ذلك..

لا شك أن فى كلام المبدع إشارة تربط بين زوال حقبة السادات وزوال حقبة صدام

- «سيداتى سادتى. معنا اليوم المعلق العسكرى اللواء الركن الدكتور خبير الاستراتيجية العسكرية السيد …….

- أهلا وسهلا.

- هل تعتقد أن العراق فى موقف صعب؟

- بالعكس الموقف العراقى ممتاز جدا. ونجح الجيش العربى العراقى فى إيقاف تقدم الأمريكان. وكما قال الرئيس العراقى إن الحرب لم تبدأ بعد.

- هل تعتقد أن الحرب ستطول؟

- طبعا والشعب الأمريكى والرأى العام يضغط على الرئيس بوش لإنهاء الحرب.

وجاءت زوجتى فى الساعة الثانية».

«لكن المطبخ لا يقتصر على تنحية وتصعيد الزعماء الكبار فقط، لقد صار المطبخ هو المكان الذى يفرز لنا كل مصائرنا. حتى وصل بنا إلى أن جلس الدجال ساقط الإعدادية الذى رفعه الدجل وما اكتسبه من ممارسته، للجلوس واللواء رجل القانون أمام المحافظ لتسوية موضوع تسليم إرهابى نفسه!.

ويحاول أبناء عمومته فى طبخ زواج بين ابن اللواء وبنت عمه.. كما أن المطبخ هو الذى جعل ابن دفعتهم يجلس ليقيّمهم ويحدد مصائرهم فى البقاء أو العزل من الخدمة.. وها هو صديقه الدكتور المثقف يطبخ صفقة لزميلة لتوظيفها، سيكتشف أن الإرهابى كان يختبئ فى مزرعته التى يصر على امتلاكها رغم ما تحققه من خسائر مالية يتغرب ليجلبها من الخليج! والمخبر يطبخ صفقات لمحامين وزملاء.............

قد يكون بطريقة غير مباشرة، اكتشف الراوى أن عليه أن يكون جزءا من المطبخ لعله يستعيد رجولته ودوره المفقود فى إمداد الحياة بطاقته، الذى يؤمن أنها لم تنفد بعد، وأنه سليم البنية والنفس. كما أنه يحتاج الطبخ لتأمين مستقبل أبنائه، لهذا لم يقاوم كثيرا الانضمام للحزب أو السير مع صديقه لتسوية قضايا تم الحكم فيها على أخيه بالحبس، بل لم يمانع أن يتعرف على أخرى غير زوجته ويضرب معها موعدا غراميا حتى وإن نسى طبيخه الخاص يحترق ويكاد يحرق منزله وهو يتصل بها. بل خرج للبحث عن حل لمشكلته الجنسية عند الأطباء.. لكن هل يجدى كل هذا مع واقع وصلت فيه المطابخ لدرجة أنها تكذب على الطباخ وتستغله؟ فقد كان اللواء أحد شهود تسليم قائد الجناح العسكرى للإرهابيين نفسه بمحض إرادته وبناء على مبادرة من أبيه توسط فيها هو شخصيا، ولكنه ها هو يقرأ فى الجرائد أثناء عودته من رحلة العلاج: تعيين حكومة عراقية مؤقتة. وفى خبر آخر: القبض على قائد الجناح العسكرى للجماعة الإرهابية، تمت أمس أخطر عملية قام بها رجال الأمن، فقد دلت التحريات على قيام مجموعة من أخطر الجماعات المسلحة بالتواجد داخل وكر على أطراف الصحراء الغربية وعلى الفور تم إعداد خطة اشترك فيها........... » كانت نهاية الرواية تعلن عن استمرار تردى الواقع، فالراوى يعلم أنه لم تكن هناك خطط، ولم تكن هناك معارك، ولم يعثر على أشخاص أو أوراق تنظيمية، وأن ما يسمونه قائد الجناح مجرد مراهق ضعيف البنية، وأنه اشترك فى عملية طبيخ فاسدة.

المصرى اليوم