هل رحلت فعلا أيها الشقي النقي؟!
«الى روح استاذ جيل من شباب بائس لم يجن شيئا من مواهبه الصارخة فقد حالت «ظروف الحياة » دون أن يحققوا شيئا من تطلعاتهم الثقافية»
***
كأني أراني فيك أرحل.. عني.
سأرحل عني بحثا عمن يعلمني كيف يكون النقاء والصفاء في هذه الدنيا بعد رحيلك يا أبا سامي.
هل فعلا رحلت عنا أيها الشقي النقي؟!
أم تركت فينا جزءا منك يعزينا فيك.. كعادتك لا تملك إلا أن تكون كريما سخيا في رحيل جسدك عنا.. لقد تركت روحك فينا.. تعزينا
وهأنت تهبط على سطح قلبي المبتلى بفاجعة موتك، فاقلب عقلي لأجد أن القيم النبيلة التي رسمتها على مدى سنوات طوال تحتضن تفكيرنا بعد رحيل الجسد.
كنت دوما من يعطي الأشياء قيمتها المعنوية.
لم تكن يا أبا سامي من الأحياء الأموات، الذين يملؤون عالمنا دون فائدة تذكر، وأهم إنجازاتهم أنهم ينقصون الأوكسجين عن الطبيعة.. انهم فراغ يعقب فراغا.
قيمك النبيلة يا أبا سامي هي التي جعلت بركانا من الأسئلة الحيرى تموج في عقلي.
لقد برهنت لنا طوال سنوات كيف تكون القلوب الصافية المطمئنة التي «رجعت الى ربها راضية مرضية».
أيها المبتلى بإنسانيتك لم تكن كالآخرين حين يبنون لأنفسهم كهوفا من الكبرياء والتفاخر والسير في تجاويف الحقد والكراهية والضغينة والأنانية، بل كنت حريصا على أن تكون انسانا قبل كل شيء، لم تتلوث بالتحزبات والمصالح الضيقة.. كان حزبك الإنسان بصفائه ونقائه.
الرجل النقي المطمئن قلبه لا يعرف كيف يكره ولا كيف يطمع ولا كيف يحسد ولا كيف يغار، كنت صافيا نقيا مطمئنا قنوعا بما لديك، لذلك كنت مبدعا لا وقت لديك إلا لمنح الآخرين الحب والصفاء.
***
بالرغم من جمال وروعة الذكريات التي قضيتها معك فإنها تدمي قلبي، لأنها تعيدني لأيام لم أعد أجدها.
فمثلك لا يتكرر.. إن حظي جيلنا بشيء منك فمن أين للأجيال بسليمان فليح آخر؟!
لا أعرف إنسانا أنقى منك.
النقاء بالمفهوم الإنساني عملة لم يعد لها وجود في وقتنا هذا.
حين نريد أن نعرف ما هو النقاء - لمن لا يعرف النقاء - نقول هل تعرف سليمان الفليح؟
***
«ولا تنسوا الفضل بينكم»
في أواخر عام 1986 ترددت على صالونك الأدبي كغيري من أبناء جيلي حيث كنت ملهما.. ومازلت من بعد رحيلك الجسدي عنا.
لم أكن واثقا من نفسي حين التقيتك أواخر عام 86 لأني آت من بيئة مجتمعية لا تعرف الورق والقلم، وبنظرتك الثاقبة والتي كان يسميها الأصدقاء «نظرة الذئب» لم تتركني لنفسي وأرغمتني أن أتسلح بالقلم وقلت بإصرار مليء بالحنان والعاطفة «أنت مشروع صحافي ناجح».
كلماتك مازالت تنمو في عقلي كل يوم حين قلت:
«إياك واليأس من نفسك.. فهذا العالم المليء بالقوة والمادة والجاه والسلطة لن يمنحك جزءا من قوته... ولن يفعل»، «لذا عليك أن تهبط الى بئر ذاتك لتستمد منها القوة وتواجه هذه الدنيا/ الغابة» .. وهكذا كان.
***
هأنت ترحل عنا ولا نستطيع أن نعزي أنفسنا بك، ملعون هذا الوقت الذي لا يسمح لنا بأن نحضر عزاء صديق.
كم هي موحشة وقاسية الظروف، ذهبت أعمارنا سدى ونحن نحبس أحلامنا في طرف الجفون الذابلة، لا يسمح لها بأن تدخل السبات العميق خشية أن تأخذنا بالنوم الى سعادة نأنس بها.
أي فلسفة يخبئها الموت لنا؟
وأي سكتة قلبية تقصف أصدقاءنا واحدا تلو الآخر؟
تلتقطين أحبتنا من قلوبنا واحدا تلو الآخر
بالأمس سليمان الفليح.. وبالأمس القريب سهيل عبود
***
بهذا الزمان المخاتل
حرابا تصير السنابل
رماحا تصير الغصون الانيقة
تروسا تصير الوجوه الحليقة
وتغدو الورود قنابل
٭ من ديوان «اغاني البدو الرحل».