كيف تعلم سوق النفط التعايش مع اضطرابات الشرق الأوسط؟
مباشر - سالي إسماعيل: ضربة جوية أمريكية بطائرة بدون طيار تقتل أهم جنرال في إيران، وطهران تتعهد بالانتقام، وأسعار النفط تقفز 5 بالمائة تقريباً مع تزاحم المتداولين لتغطية خطر اندلاع حرب في الشرق الأوسط، ثم تبدأ عمليات البيع.
ويطرح تقرير نشرته وكالة بلومبرج الأمريكية لخمسة كتاب، وهم؛ كاثرين نجاي وجرانت سميث وخافيير بلاس ودان مورتو وأنتوني ديبولا، تساؤلاً هاماً في هذا السياق مفاده: "كيف تعلم سوق النفط التعايش مع اضطرابات الشرق الأوسط؟".
ويعتبر ذلك بمثابة نمط تداول كان لا يمكن تخيله قبل عقد مضى، لكنه أصبح مألوفاً بشكل متزايد.
ورغم أن خطر الصراع كان يلوح في الأفق في قلب سوق النفط العالمي خلال الأسبوع الماضي، إلا أن موجة ذعر الشراء المعتادة من قبل التجار والمستهلكين قوبلت سريعاً بموجة من انتهاز حفاري النفط الصخري الأمريكي فرصة الأسعار الصاعدة لبيع العقود الآجلة من أجل الإنتاج في المستقبل.
وكانت الزيادة المفاجئة في أسعار النفط ضعيفة وعند تسوية الجلسة فإن الهبوط كان حاداً.
وتُعد هذه الصفقات، والمعروفة باسم التحوط، بالإضافة إلى التوسع الهائل في مخزونات النفط في آسيا والقفزة المفاجئة في صادرات الخام الأمريكي، بمثابة وصفة لسوق قادر على التجاهل السريع للاضطرابات والتي كانت حتى وقت قريب ينظر إليها كسيناريوهات مرعبة.
"عندما تشهد الأسعار قفزة مفاجئة استجابةً للأحداث الجيوسياسية، فإن المنتجين يمليون إلى التحوط أكثر"، وفقاً لما قاله رئيس أبحاث السلع العالمية في سيتي جروب في نيويورك "إيد مورس".
ويضيف أنه كلما ارتفعت الأسعار كلما زادت عمليات التحوط، وهو الأمر الذي يجعل أي زيادات في الأسعار قصيرة الآجل.
وتراجع سعر خام غرب تكساس دون 60 دولاراً للبرميل، مع تلاشي المكاسب الأخيرة جراء المواجهة للرئيس دونالد ترامب مع إيران.
ولا يعكس ذلك فقط تخفيف التوترات بعد انتقام طهران من مقتل الجنرال قاسم سليماني، والذي لم يسفر عن أية خسائر لدى الجانب الأمريكي.
لكنه كان تجسيداً لكيف غيرت ثورة النفط الصخري من نفسية السوق.
وفي نفس اليوم الذي تسببت الصواريخ الأمريكية في مقتل أهم قائد عسكري في إيران بالقرب من مطار بغداد، أعلنت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية صافي صادرات قياسية من النفط قدرها 1.73 مليون برميل يومياً.
ويُعد ذلك بمثابة تحول تاريخي بالنسبة لدولة كانت قبل عقد مضى واحدة من أكبر المستوردين في العالم، كما أنها غيرت الطريقة التي يستجيب بها السوق للأزمات.
وكانت طفرة النفط الصخري التي أدت إلى هذا التحول مدفوعة بعدد كبير من الحفارين المستقلين الذي هم أقل قدرة على استيعاب التأثير المالي لتقلبات الأسعار مقارنة مع الشركات العملاقة مثل شركة "إكسون موبيل" أو "رويال داتش شل".
وعلى عكس الحقبة التي كان يهيمن عليها الشركات الكبرى، فإن أيّ ارتفاع في أسعار النفط اليوم يقابله بائعاً بشكل تلقائي، حيث أن الشركات الأصغر حجماً تقلل حجم مخاطرها عبر التحوط.
وتقف أسعار الخام في "وضع مناسب" بالنسبة للعديد من المنتجين في أمريكا الشمالية، وفقاً لما كتبه مجموعة من المحللين في "أر.بي.سي كابيتال" للأسواق بما فيهم "مايكل تران" خلال مذكرة بحثية.
ووفقاً للمذكرة، فإن الكثير من هؤلاء المنتجين كانوا ينتظرون أو يأملون في الحصول على فرصة لوصول أسعار خام غرب تكساس عند مستوى 60 دولاراً للبرميل في عام 2020، وهو مستوى تم تجاوزه بعد مقتل سليماني.
وأعلنت شركة "أوكسيدنتال بتروليوم"، وهي واحدة من أكبر الحفارين في حوض بيرميان كثيف الإنتاج في ولاية تكساس ونيو مكسيكو، في الأسبوع الحالي أنها قد زادت من تحوطات إنتاجها عن عام 2020 من 300 إلى 350 ألف برميل يومياً بمساعدة بنوك وول ستريت.
وبحسب مذكرة "أر.بي.سي"، فإن أنشطة التحوط كانت قوية على مدى الأسابيع الأخيرة.
وتوضح: "يفترض أن ترتفع الأحجام فقط عندما تزيد الأسعار بالتزامن مع تحسن السيولة في موسم العطلات".
وتوفر كل دفعة في عمليات التحوط دعماً لمنتجي النفط الأمريكي، مما يسمح لهم بالحفاظ على مستويات أعلى من الإنتاج في وقت يتوقع فيه المحللون أن ينحسر نمو الخام الصخري.
وفي وقت لاحق من هذا العام، ربما يملأ بعض النفط الخام المرتبط بهذه العقود شبكة خطوط الأنابيب والمحطات والموانئ المتصلة بساحل الخليج الأمريكي، مما يعزز مكانة الولايات المتحدة كقوة محركة في تصدير الطاقة، وتوفر بديلاً منخفض المخاطر للنفط المنتج في الشرق الأوسط.
وسلط ترامب نفسه الضوء على هذا التحول في مؤتمر صحفي عقده داخل البيت الأبيض يوم 8 يناير/كانون الثاني بعد ضربة الصواريخ الانتقامية من إيران على قواعد جوية أمريكية في العراق، بقوله: "الولايات المتحدة مستقلة، ونحن لا نحتاج إلى خام الشرق الأوسط".
وفي حين أن تفاخر الرئيس عبارة عن مبالغة، إلا أن هيمنة منطقة الشرق الأوسط كمصدر للنفط قد تراجعت.
وشكلت الصادرات من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حوالي 38 بالمائة من النفط الذي تم نقله عبر كافة أنحاء العالم في عام 2018، وهي نسبة أقل من 43 بالمائة المسجلة قبل عقد مضى، طبقاً لبيانات من شركة "بي.بي" للنفط.
ورغم أن بعض الدول قد عززت الطاقة الإنتاجية، إلا أن دولاً أخرى مثل إيران وليبيا شهدت طاقتها الإنتاجية هبوطاً بفعل العقوبات والصراعات.
وعلى النقيض من ذلك، منذ منتصف العقد الماضي شهدت الولايات المتحدة قفزة لصادراتها النفطية من مستوى صفر فعلياً لأكثر من 3 ملايين برميل يومياً، وهو مستوى أكبر مما يتم شحنه من قبل أيّ منتج في الشرق الأوسط بخلاف العراق والسعودية.
وتصل نسبة كبيرة من هذا الخام إلى آسيا، وهي المنطقة التي كان غالبية اعتمادها تاريخياً على إمدادات الطاقة من الخليج.
وتعني هذه الإمدادات البديلة بالإضافة إلى التوسع الكبير في المخزونات النفطية، أن آسيا في وضع أفضل لتحمل الاضطرابات.
وقامت الصين، وهي أكبر مستورد للنفط بالعالم، بمراكمة مخزونات حكومية هائلة يمكن أن تحميها من صدمات المعروض قصيرة الآجل.
ونمت احتياطيات الصين النفطية من حوالي 191 مليون برميل في منتصف عام 2015 إلى نحو 800 مليون برميل في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، وفقاً لحسابات وكالة بلومبرج استناداً إلى بيانات حكومية.
كما أن السعودية قامت بمراكمة المخزونات في العقد الماضي، بما في ذلك أكثر من 8 ملايين برميل في جزيرة أوكيناوا اليابانية.
وكتب محللون في بنك "جولدمان ساكس" بما في ذلك "جيفري كوري" خلال مذكرة بحثية صادرة يوم 6 يناير/كانون الثاني، أن مخزونات النفط بالأسواق الناشئة أكبر بكثير مما كانت عليه في السابق، وخاصةً في السعودية والصين.
وأضاف المحللون أن كلا البلدين أبدا بالفعل رغبتهما في استخدام تلك المخزونات لتحقيق الاستقرار بين المعروض والأسعار.
وكان رد الفعل الصامت على أزمة سليماني يمثل المرة الثانية في بضعة أشهر فقط التي يتجاهل خلالها السوق الاضطرابات الجادة في الشرق الأوسط.
وكانت الضربة على منشأة بقيق السعودية لمعالجة النفط في سبتمبر/أيلول الماضي - والتي ألقت الولايات المتحدة بشأنها اللوم على إيران - أكبر عملية تعطيل فردية في الإمدادات عبر التاريخ، لكن الطفرة اللاحقة في الأسعار تلاشت بعد أسبوعين فقط مع إصلاح المنشأة.
ومن المؤكد أن كلا الهجومين على السعودية ومقتل سليماني لم تكن أزمات طويلة الأمد، ويعكس تراجع الأسعار كذلك الخطر الآخذ في التناقص على الإمدادات.
لكنها رغم ذلك لاتزال تعتبر أحداثاً كبيرة مقارنة مع نوع الشائعات التي كان يمكن أن تؤدي لارتفاع أسعار الخام قبل عقد مضى مثل تقارير بشأن مناورة تدريبية إسرائيلية والتي تسببت في زيادة أسعار النفط الخام لنحو 150 دولاراً للبرميل في صيف 2008.
وبشكل تدريجي، يتم استبدال قدامى الصناعة الذين تعرضوا لتراجع الهيمنة بفعل تعطيل الإمدادات مثل غزو العراق عام 2003 أو حرب الخليج في عامي 1990 و1991، بجيل أصغر سناً والذي طور مهنته في عالم أكثر اعتياداً على الفائض وليس العجز.
ويقول مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون موارد الطاقة "فرانسيس فانون" خلال مقابلة متلفزة مع محطة "بلومبرج" في أبو ظبي: "العالم ما زال يتقبل هذه المرونة الجديدة التي يمكن للمنتجين الأمريكيين توفيرها".