أزمة تشيلي.. احذر نجاحك لأنه قد يطاردك
تحرير: سالي إسماعيل
مباشر: لأكثر من أسبوعين، كانت شوارع المدن الرئيسية في تشيلي تعج بالمتظاهرين، لكن ما هو الدافع الحقيقي وراء هذه الاحتجاجات؟
ويفسر الكاتب والأستاذ المساعد سابقاً في الاقتصاد بجامعة نورث كارولينا "كارل سميث" خلال تقرير نشرته وكالة "بلومبرج أوبينيون" الأمريكية سبب أن تشيلي أضحت ضحية قصة نجاحها.
واندلع الغضب في البداية بسبب زيادة في أسعار أجرة القطارات، لكن المتظاهرين ظلوا في الشوارع للاحتجاج ضد عدم المساواة في الثروة، والفقر، والفساد.
وربما يدفع ذلك قراء الأخبار العاديين لاستنتاج أن تشيلي مجرد دولة أخرى من بلاد الأسواق الناشئة المنهارة الغارقة في الركود الاقتصادي والحكم الاستبدادي.
لكن العكس هو الشيء الصحيح: تُعد تشيلي واحدة من أكبر قصص النجاح في عالم الدول النامية.
وخلال الفترة من 1973 إلى 1990، خضعت تشيلي للحاكم الديكتاتوري العسكري "أوغستو بينوشيه" والتابع لحزب اليمين.
ورغم إشادة الأسواق الحرة المتشددة بسياسات عدم التدخل التي اتبعها آنذاك، إلا أن سجل "بينوشيه" الاقتصادي كان محبطاً إلى حد ما.
وشجع الديكتاتور على تكوين فقاعة عقارية والتي سرعان ما انهارت وألحقت معها الضرر بالاقتصاد، كما أن برنامجه للتقشف المالي جعل الركود أسوأ.
لكن في السنوات التي أعقبت استعادة الديمقراطية في عام 1990، تمتعت البلاد بفترة طويلة من النمو الاقتصادي المطرد.
ولم تتفوق تشيلي فقط على جيرانها في أمريكا اللاتينية ولكنها تمكنت من سد جزء من الفجوة مع الولايات المتحدة كذلك.
ويعتبر هذا النمو الاقتصادي أكثر إثارة للإعجاب بالنظر إلى اعتماد تشيلي على صادرات الموارد الطبيعية، حيث تجنبت كل من دورات الازدهار والكساد والخلل السياسي والتي كانت جميعها شائعة بين الاقتصادات القائمة على السلع.
وبدلاً من ذلك، قامت تشيلي بإدارة ثرواتها من الموارد الطبيعية بمهارة وحكمة، حتى أن الكساد العظيم ترك أثر سلبي لفترة وجيزة فقط.
وبطبيعة الحال، فإن النمو الاقتصادي ليس هام للغاية ما لم يتم مشاركته على نطاق واسع.
وشأنها في ذلك شأن غالبية الدول في أمريكا اللاتينية، فإن تشيلي لا تشهد تكافؤاً في الثروة عند النظر إلى مؤشر جيني (وهو أحد المؤشرات الهامة والأكثر شيوعاً لقياس عدالة توزيع الدخل القومي) والذي سجل 46.6 نقطة في عام 2017 مقارنة مع 41.5 نقطة في الولايات المتحدة (يعني بلوغ المؤشر 100 نقطة وصوله لأقصى حد في عدم المساواة).
لكن عدم المساوة في الدخل أصبحت أقل في تشيلي مما كانت عليه في عام 1990 وهو ما يرجع جزئياً إلى الاستثمارات المتزايدة في التعليم.
وبسبب النمو الاقتصادي المستمر وعدم المساواة الآخذة في التراجع، فإن معدل الفقر النسبي في تشيلي - والذي يُعرف بأنه النسبة المئوية للأشخاص التي تعيش على أقل من نصف متوسط الدخل - تراجع إلى 16.1 بالمائة فقط، وهو أقل من نظيره في الولايات المتحدة وبالكاد أعلى من اليابان.
وفي نفس الوقت، تؤدي البلاد بشكل جيد بناءً على مجموعة كبيرة من المؤشرات الاجتماعية، حيث ارتفع مؤشرها لقياس متوسط العمر المتوقع كما أنه يتجاوز نظيره في الولايات المتحدة حالياً.
وبالنظر إلى مؤشرات الحرية السياسية، فإن تشيلي كذلك تسجل أداءً جيداً.
ومنحت مؤسسة "فريدم هاوي"، وهي مؤسسة بحثية تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها، تشيلي 94 نقطة من 100 نقطة في مزيج من الحرية السياسية والاجتماعية، وهو ما يعادل الوضع في ألمانيا في حين تسجل الولايات المتحدة 86 نقطة.
وتصنف المؤسسة البحثية التي تتخذ من فرنسا مقراً لها "مراسلون بلا حدود"، تشيلي في المرتبة رقم 46 عالمياً من حيث حرية الصحافة لتسبق الولايات المتحدة التي تشغل الترتيب رقم 48.
وفيما يتعلق بالفساد، فإن وضع تشيلي أسوأ بكثير، حيث لم تمنحها "الشفافية الدولية"، وهي مؤسسة بحثية مقرها ألمانيا، سوى 67 نقطة من أصل 100 نقطة في مؤشر مدركات الفساد، لتكون أقل بقليل من الولايات المتحدة لكنها لا تزال متقدمة على كوريا الجنوبية وتايوان (100 نقطة تعني أقل فساداً).
وبالتالي، بالنسبة للمراقبين في الخارج فإن تشيلي تبدو دولة ناجحة للغاية من فئة الدول ذات الدخل الأعلى من المتوسط كما تتمتع بالحرية والازدهار والقوة وتقوم بعمل جيد في معالجة معضلة عدم المساواة في الثروة.
وسواء كانت تشهد احتجاجات أم لا، فإن قادة تشيلي ونظامها الديمقراطي يستحقون التهنئة والإعجاب على هذه الإنجازات.
ولكن التساؤل الذي لا محالة من طرحه يكمن في: إذا كانت تشيلي ناجحة للغاية، فلماذا تعج الشوارع بالغضب؟
تدور أحد الاحتمالات في أن المؤشرات الشائعة التي تم الاستشهاد بها أعلاه لا ترصد ببساطة بعض العناصر الهامة من الفشل الاجتماعي أو الاقتصادي.
وربما يشعر الشعب التشيلي بمزيد من الهشاشة من الناحية الاقتصادية، وقد يشعرون بأن نخبة قليلة تسيطر على العملية السياسية وتحرمهم من التعبير عن أرادتهم الحقيقية.
أو ربما أنهم ببساطة يهتمون كثيراً بأسعار بعض السلع اليومية مثل تذاكر القطار.
ولكن الرأي البديل يشير إلى أنه ربما تكون الاحتجاجات كما هو الحال في تشيلي مجرد نتاج صعود التواصل الاجتماعي.
وفي كتابه "ثورة الجمهور وأزمة السلطة في الألفية الجديدة"، يرى "مارتن غوري" المحلل السابق في وكالة الاستخبارات المركزية "سي.آي.إيه" أن وسائل التواصل الاجتماعي قد جعلت الاحتجاجات الكبيرة من السهل للغاية تدشينها.
ويرجع ذلك في الأساس إلى أن أيّ سبب خاص بالامتعاض - الغضب حيال التاريخ أو الشعور الغامض بشأن التعرض للخداع من قبل النخب وخيبة الأمل من فشل الحكومة في الوفاء بالوعود الكبرى - يميل حالياً للانتشار عبر الشوارع.
لكن من الممكن أن يكون النجاح القوي الذي حققته تشيلي خلال العقود الثلاثة الماضية هو ما يقودها للشعور بالاستياء في الوقت الحالي.
ورغم أن النمو الاقتصادي في تشيلي كان يسجل وتيرة متسارعة لنحو 22 عاماً، لكنه تباطأ مؤخراً وهو ما قد يرجع إلى انخفاض أسعار السلع الأساسية.
وفي عام 2018، فإن نصيب الفرد من الدخل الحقيقي كان أعلى بنحو 5 بالمائة فقط عما كان عليه في عام 2013.
وانتهى غالبية الانخفاض في عدم المساواة بحلول عام 2006، وأعقب ذلك جيل نشأ على توقعات بارتفاع مستويات المعيشة بشكل مطرد بالإضافة إلى الحرية المتنامية وزيادة عدم المساواة وهو الأمر الذي قد يثير السخط كون هذه التوقعات لم يتم الوفاء بها.
ولقد استخدمت هذه الفكرة، والتي تُسمى ثورة التوقعات المتزايدة، لتفسير الاحتجاجات والثورات عبر قرون من الزمن من الثورة الفرنسية إلى الاضطرابات في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
ويعني ذلك أن التقدم السريع الذي أعقبه حالات من التوقف يميل إلى تأجيج الاضطرابات.
ومن المرجح أن تشيلي ستكون ضحية نجاحها الخاص، وإذا كان الأمر كذلك، فإن تشيلي ليس لديها خيار سوى انتظار انتهاء الاحتجاجات.