تحرير: نهى النحاس
مباشر: تغير شكل المناقشات المتعلقة بالتضخم في الاقتصاديات المتقدمة بصورة ملحوظة على مدار العقود الماضية، حيث انتهى عصر الخوف من تسارع التضخم والقوة المفرطة لأسواق السندات وبدلاً من ذلك فإن القلق الآن بشأن أن التضخم الضعيف قد يعوق النمو الاقتصادي.
ويشير محمد العريان في مقال نشره موقع "بروجيكت سينديكيت" إلى أنه في حين أن معدلات الفائدة السالبة - مع وصول سوق السندات العالمية بعوائد دون الصفر لنحو 11 تريليون دولار - قد تتسبب في سوء تخصيص الموارد وتقويض الأمن المالي طويل الآجل للأسر، فإن أسعار الأصول المتصاعدة تزيد من مخاطر عدم الاستقرار المالي في المستقبل.
كما أن المستثمرين أصبحو أكثر اعتماداً على البنوك المركزية في الوقت الذي يجب أن يكونوا أكثر خوفاً منها.
وفي إطار البحث حول طرق جديدة لتحقيق معدلات تضخم أعلى فإن البنوك المركزية الكبرى تميل لتفضيل العقلية الدورية، مع منح إشارات متكررة لعدم كفاية الطلب الكلي.
ولكن ماذا إذا كان ذلك المنظور الذي من خلالها يتم استعراض الظروف الحالية خاطئ، وأننا فعلاً في منتصف عملية متعددة المراحل تفسح فيها قوى جانب العرض التي تدفع لتباطؤ التضخم الطريق للعودة لمعدلات التضخم المرتفعة؟
وعند تلك الحالة فإن صناع السياسة النقدية والمشاركون في السوق سيكونوا بحاجة إلى التفكير في نموذج مختلف إلى حد ما بالنسبة لمعادلة الفرص والمخاطرة بدلاً من النموذج المتبع حالياً.
وللتوضيح، فإنه بعد اقتراب التضخم من مستهدف البنوك المركزية قرب 2 بالمئة في 2018 فإن معدل التضخم الأساسي في أوروبا والولايات المتحدة يتراجع منذ تلك الفترة.
والمقياس التقليدي لتوقعات السوق بالنسبة للتضخم (معدل التعادل لسندات الخزانة لآجل 5 سنوات) لايزال أدنى المستهدف، على الرغم أن متوسط فترة 6 أشهر لخلق وظائف تعتبر أعلى بنسبة 50 بالمئة تقريباً عن المستوى التاريخي اللازم لاستيعاب الداخلين الجدد إلى سوق العمل.
وبالرغم من أن معدل البطالة الأمريكي عند مستوى 3.6 بالمئة وهو أقل مستوى في نحو 5 عقود، فإن معدل المشاركة في القوى العاملة عند 62.8 بالمئة لايزال عند مستوى منخفض نسبياً.
ونظراً لاستمرار انخفاض معدل التضخم فإن السياسات النقدية لاتزال تيسيرية بشدة لفترة طويلة غير اعتيادية، ما يرفع الشكوك بأن الولايات المتحدة أو أوروبا قد تذعن للنموذج الياباني حيث يؤجل المستهلكين قرارات الشراء وتخفض الشركات الإنفاق على الاستثمارات.
وإلى الآن تسبب ذلك الخطر في معدلات فائدة منخفضة أو سالبة لفترة طويلة للغاية وتضخم الميزانيات العمومية للبنوك المركزية على الرغم من الآثار الضارة لمثل تلك السياسات على استقامة النظام المالي.
وفي الواقع فإن بعض المراقبين الاقتصاديين يفضلون أن يقوم البنك المركزي الأووربي ليس فقط بالإبقاء على معدلات الفائدة السالبة وإنما استئناف شراء الأصول تحت برنامج التيسير الكمي.
وعلى نحو مماثل هناك أيضاً هؤلاء الراغبون في أن ينفذ بنك الاحتياطي الفيدرالي عملية خفض لمعدل الفائدة على الرغم أن المؤشرات تشير إلى أن العام الحالي سيمثل عاماً إضافياً من النمو الاقتصادي القوي وخلق الوظائف.
وفي الوقت نفسه فإن البنوك المركزية بدأت في البحث بعيداً عن أدواتهم المتاحة سواء التقليدية أو غير التقليدية عن طرق جديدة تحفز الزيادات في الأسعار على مستوى الاقتصاد، كزيادة مستهدف التضخم إما بصورة مباشرة أو بمتابعة المتوسط والسماح للانحرافات مع مرور الوقت.
ولكن التضخم المنخفض على نحو مفاجيء اليوم يبدو وأنه مرتبط بعوامل هيكلية أكبر، ما يعني أن ذلك غير متأصل فقط داخل الطلب الكلي غير الكافي.
والابتكارات التكنولوجية والمتعلقة بشكل خاص بالذكاء الاصطناعي بشرت بانهيار واسع في العلاقات الاقتصادية التقليدية وتآكل قوة التسعير.
ويمكن أن نطلق على تلك القوى المجتمعة اسم "تأثير أوبر وأمازون وجوجل".
وفي حين أن نموذج أمازون يدفع الأسعار للهبوط من خلال السماح للمستهلكين بتجاوز الوسطاء الأغلى ثمناً، فإن "جوجل" تقلل من قدرة الشركات على التسعير عن طريق خفض تكاليف البحث، أما "أوبر" فتجلب الأصول الحالية إلى السوق ما يؤدي إلى تآكل قدرة التسعير للشركات القائمة.
وتأثير أوبر وأمازون وجوجل أدار عملية خفض لمعدل التضخم والتي بدأت مع تسارع العولمة وجلب مزيد من المنتجات منخفضة التكلفة إلى الإنترنت وخفضت قوة القوى العاملة المنظمة داخل الاقتصاديات المتقدمة.
ولكن في حين أن هذه الاتجاهات ستستمر في الوقت الحالي، فإنها من المحتمل أن تؤدي لتأثيرات تضخمية، حيث أن الركود في سوق العمل يتناقص كل شهر، والتركيز الصناعي المتزايد يعطي بعض الشركات وخاصة في قطاع التكنولوجيا قوة تسعير أكبر بكثير.
والآن فكر في هذه الاتجاهات في سياق المشهد السياسي المتغير اليوم، العديد من السياسيين مدفوعين بالغضب المفهوم تجاه انعدام التكافو في الدخل والثروات والفرص، أصبحوا يحتضنون الشعبوية مع وعود بمزيد من الإدارة النقدية النشطة وتدابير من أجل خفض سلطة رأس المال لصالح العمال.
وفي الوقت نفسه هناك ضغوطا سياسية متنامية على البنوك المركزية لتجاوز قنوات الأصول (برامج شراء السندات وغيرها) وضخ السيولة بشكل مباشر داخل الاقتصاد.
والمخاوف الاقتصادية تقود أيضا سياسات مناهضة للعولمة، حيث أن التسلح بأدوات السياسة الاقتصادية مثل التعريفات الجمركية وغيرها من التدابير التجارية يخاطر بتجزئة العلاقات الاقتصادية والمالية العالمية وتفضيل الأسعار المرتفعة وإقناع الشركات والمستهلكين بدرجة أكبر بالتأمين الذاتي المكلف.
وفي الوقت نفسه فإنه مع تحول توقعات استمرار انخفاض التضخم لتصبح أكثر ترسخًا فإن صدمة الأسعار الصعودية قد تكشف نقاط الضعف وتزيد من مخاطر أخطاء السياسة وأزمات السوق.
وبالنظر إلى الكيفية التي من المرجح أن تعمل بها هذه القوى المنافسة مع مرور الوقت فإن صناع السياسة الاقتصادية والمستثمرين عليهم ألا يستبعدوا العودة إلى التضخم المتسارع بمرور الوقت.
ومن المحتمل أن نستمر في تجربة المرحلة الحالية الأولية التي تستمر فيها أثار أوبر وأمازون وجوجل، لكن ذلك قد يُتبع بمرحلة ثانية تبدأ فيها أسواق العمل المتشددة والقومية الشعبوية وتركيز الصناعة في تعويض الآثار الهيكلية غير المتكررة للتكنولوجيا الجديدة التي تم تبنيها على نطاق واسع.
وفي المرحلة الثالثة فإن البداية المحتملة للتضخم المرتفع يمكن أن تفاجئ صناع السياسة والمستثمرين مما ينتج عنه ردود فعل مفرطة تزيد الوضع سوءاً.
وكما هو الحال مع معظم نماذج التحولات فإن هناك القليل من اليقين فيما يتعلق بتوقيت هذا السيناريو، ولكن في كل الأحوال يجب على صانعي السياسة في الاقتصادات المتقدمة أن يدركوا أن آفاق التضخم لديهم تخضع لمجموعة واسعة من الاحتمالات أكثر مما فكروا فيه حتى الآن.
والتركيز بشكل أكبر على الدورية بدلاً من الهيكلية ، قد يشكل مخاطر جمة على الرفاهية الاقتصادية والاستقرار المالي في المستقبل.