الكلام

عيون الكلام الكلام

تتفق الأدبيات التى تدرس مهارات الإنسان الذهنية على أن هناك ثلاثة عوائق تعرقل التفكير العقلانى السليم وتهدر الطاقة اللازمة للفعل الإيجابى الخلاق. على رأس تلك العوائق يمثل الكذب. والكذب هنا لا يصح تبسيطه وتسطيحه فى عدم قول الحقيقة ولكن له أوجه أكثر تعقيدا، فالحديث تحت وطأة المشاعر القوية الذى يظهر فى صورة الكلام الصريح، إن اتسم بأنه جارح للآخرين، يعد وفقا لتلك القائمة كذبا؛ مع أنه كثيرا ما يشار إليه عن طريق الانحياز بأنه صنو المواجهة والإخلاص والصراحة والشجاعة فى التعبير عن الذات. يشمل الكذب كذلك الخيال غير الواعى الذى يدخل نطاق الهواجس المبهمة والخوف غير المبرر والخرافة والخزعبلات والتطير. كما يشمل الكذب وفقا لهذا التعريف التعبير اللفظى العنيف بوصفه دليلا على الضعف بسبب انتمائه لرؤية نرجسية للعالم لا تعتد بوجود وجهات نظر مخالفة. ويتمثل الضعف هنا فى انعدام القدرة على صياغة المشاعر ووجهات النظر على نحو يتضح منه مدى الجهد الذى بذل فى تلك الصياغة، فنجدها مشوبة بالتعميمات المجهلة (بضم الميم) والأفكار الجاهزة مما ينم عن منهج فى التفكير يتماهى فيه المتحدث مع الحديث فيبدو كأنه يدافع عن وجوده لا عن فكرة مطروحة للنقاش وبالتالى يعوق التطور بالذات وبالنقاش نفسه نحو الحقيقة. فالحقيقة لا تنبئ عن نفسها فى عالمنا برمتها مرة واحدة، وإلا صعقنا جميعا كما صعق الجبل أمام ناظرى موسى عليه السلام. يشمل الكذب كذلك الكلام دون إنصات للآخر والرد وكأن المرء يعلم مسبقا كل ما فى جعبة ذلك الآخر فيفقد القدرة على ملاحظة أى جديد قد يطرأ على موقف محدثه لأنه لا يشتبك مع المضمون ويقف عند الشكل. أما العائق الثانى فيبدو للوهلة الأولى على نقيض كل هذا ويتمثل فى اعتبار رأى الآخرين إلى الحد الذى يشل الفعل الحر وبالتالى يحد من قدرة المرء على صياغة أسئلة حقيقية تطور النقاش فى اتجاه حلول تفيد الطرفين.

العائق الثالث هو عدم القدرة على مراجعة الذات دون إصدار أحكام قاسية نهائية عليها وهو ما نطلق عليه وصف «جلد الذات» ويكرس للشعور بالذنب وبذا تشل القدرة على التحرك فى اتجاه التعلم، فالتعلم عملية مستمرة نتبادل فيها الأدوار على الدوام.

إذا راجعنا القائمة عاليه نجد أن القاسم المشترك بينها يكمن فى فكرة التحرر من ثنائية الخطأ والصواب. وهى دعوة كذلك لخفض حدة المنافسة على الحقيقة بما أن الحقيقة برمتها لا يمكن أن يدركها الإنسان لأنها تمثل المطلق والإنسان لا يدرك سوى النسبى بفضل مكانته فى الكون أو بفضل ما يسمى «الظرف الإنسانى». وعلى هذا الأساس يمكننا تلخيص القدرة على استخدام عقولنا وفقا لما توفره لنا إمكانياتنا على النحو التالى: ألا نتحدث تحت وطأة المشاعر القوية سلبية كانت أو إيجابية وألا نتحدث بما لا نعلم ودون توفر معلومات أكيدة عن موضوعنا يمكن إثباتها، وألا نسمح لخيالنا أن يجرفنا إلى حيز التهيؤات غير المثبوتة، وأن ننصت ونستمع للمتحدث حتى يفرغ من حديثه كى نتلمس النقاط التى يمكننا البناء عليها لتوصيل رؤيتنا له وأن نمرن أنفسنا على ألا نبنى حديثنا على أسس مسبقة فيما نتخيل أنه أحكام الآخرين علينا، وأن نتوخى الحرص فى عدم استخدام التعميمات المخلة (بضم الميم).

قصر الكلام، أن نتذكر أن الخوف من الخطأ يكمن فى اللب من كل خوف وأن الخوف هو أصل كل الكذب وأن الكذب هو صنو«الكفر» بما أن الكفر فى الأصل المعجمى، هو محاولة لإخفاء الحقيقة.

somayaramadan@yahoo.com
>  

SputnikNews