أخبار عاجلة

الداخل الأمريكي وما يجري في

الداخل الأمريكي وما يجري في مصر الداخل الأمريكي وما يجري في

فى كتاب صدر منذ ثلاثة أشهر للسياسى الأمريكى ريتشارد هاس Hass عنوانه «السياسة الخارجية تبدأ من الداخل»، أشار هاس إلى أن أى تحليل ذكى للسياسة الخارجية الأمريكية لا بد أن ينطلق من تحليل ما يجرى فى الداخل الأمريكى، فالأحداث الخارجية ليست بمعزل عن الشؤون الداخلية للدولة، وتوجهات الخارج هى انعكاس لميزان القوى الدولية من ناحية، ولتفاعلات القوى الداخلية من ناحية أخرى.. وهى الفكرة نفسها التى أشار إليها عالم السياسة الأمريكى روبرت باتمان Putnam عندما أشار إلى نموذج «اللعبة ذات المستويين» فى إشارة إلى تأثير الشؤون الداخلية للدول على سياساتها الخارجية.

وعندما نحلل الموقف الأمريكى تجاه ، سوف يصدم المرء عندما يجد أن اعتبارات «اللامعقولية» تبرز بشكل أكبر من اعتبارات «المعقولية»، وأن الاعتبارات الذاتية تطغى فيه على الاعتبارات الموضوعية، وأن اعتبارات الداخل الأمريكى تفوق فى تأثيرها اعتبارات الخارج، بحيث يمكننا القول بأن القرار الأمريكى المتردد، والمتلكئ، والمتناقض، يعكس حالة الولايات المتحدة فى وقتنا الحالى، فهى دولة كبرى فى أزمة، وهذه الأزمة ليست طارئة، بل مستمرة، وقد تهدد هذه الأزمة الوجود الأمريكى نفسه كقوة عظمى وحيدة فى الوقت الحالى..

ولعل أحد أسباب هذا الموقف الأمريكى من أحداث مصر هو ما حدث للولايات المتحدة فى بنى غازى منذ عدة أشهر، من مقتل للسفير الأمريكى وبعض معاونية هناك.. ومن يتابع وسائل الإعلام الأمريكية واستطلاعات الرأى العام الأمريكية منذ سبتمبر الماضى يجد أن هناك ما يمكن تسميته بعقدة بنى غازى، فقد ألقى هذا «الفشل الأمريكى» بظلاله على المواقف اللاحقة للولايات المتحدة فى تعاملها مع دول المنطقة، بسبب ضغط الرأى العام الأمريكى وتقييمه السلبى لإدارة أوباما لملف الإسلاميين ولثورات الربيع العربى.. ولا تزال قنوات مثل ABC، وCBS و غيرها تذكر الأمريكيين بفشل أوباما فى هذا المجال..

ضغط الكونجرس ذى الأغلبية الجمهورية على الرئيس أوباما، واستدعاؤه لسماع شهادته فيما يتعلق بثورات الربيع العربى وبمصير أموال «دافع الضرائب الأمريكى» التى ساند بها الإسلاميين، يمثل عامل ضغط آخر.. فأوباما الذى كان شعار حملته الأمل والرغبة فى التغيير أصبح الفشل والتقليدية هى أبرز سمات حكمه للولايات المتحدة.

ضغوط الواقع الاقتصادى الأمريكى، وما تشير إليه بعض التقارير من أن الاقتصاد الأمريكى يمر بأزمة قد تماثل فى نتائجها أزمة الكساد العظيم فى نهاية العشرينيات من القرن الماضى، حيث ارتفع معدل الدين الداخلى والخارجى إلى معدلات غير مسبوقة، حيث وصل إلى ما يقرب من 34 تريليون دولار، وانخفضت قيمة الدولار بنسبة 15% فى العام الأخير، وبدأت الولايات المتحدة فى اتخاذ إجراءات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه منها اللجوء إلى طبع 850 مليون دولار كل شهر، أو تريليون دولار سنويا لتغطية جزء من هذا العجز.. والأخطر من ذلك أن الدولار الأمريكى مهدد بفقدان قيمته كضامن للعملات الدولية بالضبط، كما حدث للجنيه الإسترلينى عام 1974. هذا الواقع الاقتصادى المضطرب، جعل الداخل الأمريكى يتساءل بقوة عن المساعدات التى تقدمها الولايات المتحدة إلى الخارج، وعن درجة الاستفادة التى يحصل عليها المواطن الأمريكى من ذلك.. وليست مصر ومساعداتها ببعيدة عن هذا النقاش..

أما العامل الأكبر فى أزمة الموقف الأمريكى تجاه مصر، فتكمن فى مصادر المعلومات المشوهة التى تعتمد عليها الولايات المتحدة فى بناء أحكامها، فإلى جانب تقارير أجهزتها المخابراتية التى فشلت فى توقع كثير من الأحداث، وإلى جانب تحليلات سفرائها التى فشلت أيضا فى إعطاء تقدير صحيح للموقف، تعتمد الولايات المتحدة على مصدرين إعلاميين غير نزيهين: قناة السى إن إن الأمريكية، وقناة الجزيرة القطرية، وهو ما تشير كثير من التحليلات إلى أنهما ذوا تأثير كبير فى رؤية الإدارة الأمريكية للواقع... ولما كان من الواضح أن هاتين القناتين، لاعتبارات كثيرة، تنقل واقعاً مشوهاً، وتحرض على التلفيق والاختلاق بعيدا عن الواقع، فقد كان من المنطقى أن تأتى مخرجات السياسة الأمريكية بعيدة عن الواقع، وبعيدة عن المنطق.

وإذا كان إدوارد سعيد قد فضح فى كتابه الشهير «الاستشراق» فكرة «شرقنة الشرق» بواسطة الرحالة والأدباء الغربيين وكتابات المستشرقين، بحيث استطاع الغرب أن يفهم الشرق من خلال فكرة مصطنعة غير حقيقية ومختلفة عن الواقع، فإن قناتى السى إن إن، والجزيرة القطرية، قد قامتا بنفس الدور فى أيامنا هذه، فقد خلقت واقعاً غير حقيقى عن العالم العربى، ورسمت صورة غير صحيحة عن معطيات الواقع، وأسهمت هذه الصورة الزائفة فى تضليل السياسات الأمريكية تجاه ما يحدث فى العالم العربى بصفة عامة، وفى مصر، بصفة خاصة فيما يتعلق بالأحداث الأخيرة.

قريب من هذه النقطة فكرة اعتماد الولايات المتحدة على محللين أمريكيين لفهم طبيعة العقل العربى، ولذلك، تبدو هذه التحليلات فى الغالب «مغتربة» عن واقعها الحقيقى، وما كان أحراها أن تدرس العقل العربى من خلال محللين عرب، ومن خلال أهل مكة نفسها، فأهل مكة أدرى بشعابها كما يقول المثل العربى.

وإذا كانت آفة الرأى الهوى، فإن آفة السياسة الخارجية الأمريكية هى أنها تنظر إلى الموقف المصرى بعيون إسرائيلية، فالولايات المتحدة لا تنظر إلى الواقع العربى مجرداً، ولا تحلل الموقف بشكل موضوعى، وإنما من خلال ثقب ضيق تسمح به المصالح الإسرائيلية، ويفرضه اللوبى اليهودى فى الولايات المتحدة.

ويبدو أن حلم ثورات الربيع العربى بصفة عامة، والذى حلمت فيه الولايات المتحدة بنشر الفوضى فى منطقة تمتد من الصين وروسيا مرورا بدول الخليج العربى من خلال استخدام الإسلام السياسى، قد تحول بفضل ما حدث فى مصر إلى كابوس ليل سيبيرى قارص البرودة، على تعبير ويليام إنجدال فى صحيفة الوشنطن بوست، فجميع السيناريوهات التى وضعتها الولايات المتحدة قد تحطمت على أرض الواقع العربى.. ووجدت الولايات المتحدة نفسها فى موقف لا تحسد عليه.

خلاصة القول: إن الموقف الأمريكى ليس بمرتبك ولا بمتناقض، وإنما هو نتيجة لأزمة داخلية طاحنة على المستوى الاقتصادى بالأدلة والأرقام وعلى المستوى السياسى لسقوط الأوهام الأمريكية فى الهيمنة على العالم.

ولذا، فنحن أمام موقفين على المستوى الإعلامى: إما التجاهل التام لكل ما يصدر عن الإعلام المغرض عن قصد وتعمد من جانب الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وإما أن نبتعد عن الخطاب الرمادى اللغة ونكتبه بلغة شعب يخاطب شعب. وخطاب الشعوب دائما أقوى وأوضح، ولكنه يحتاج إلى قنوات وأدوات وخبرات محترفة يتم استئجارها من داخل المجتمعات الغربية. ففى الولايات المتحدة الأمريكية الكل يعرف أن كل شىء بأجر حتى المسؤولون الكبار يتم استئجارهم.

ويبقى أن أقول إن أمريكا تعرف عن يقين أن مصر ليست منقسمة، وإنما هناك فريق أراد أن يدير دولة بحجم مصر وتنوعها، ولم ينجح، فخرج شعب يعلن رفضه بالفعل السلمى وبالصوت والصورة، ولكن أمريكا لا تريد أن تصدق أن هناك شعبا قد سحب إرادته من سوق البيع والشراء، وقرر أن يبنىن وينتج، ويستقل بإرادته، ومعه أخلص مؤسساته- جيشه الوطنى، ومن حوله أمته العربية والإسلامية عن قناعة حقيقية.

SputnikNews