ممرضة شابة تعالج أحد الباشوات، يتميز صوتها بجمال منقطع النظير تطرب به آذان الآخرين صباحًا ومساءً، من هذه النقطة أحبها شقيق الباشا الذي لم يجد سبيله إليها إلا من خلال الزواج، وهو ما أغضب أسرته منه وطردوه من القصر.
ووجد شقيق الباشا ضالته في حبه القديم حتى يعود إلى القصر، وبالفعل تزوّجها وعاد إلى القصر متناسيًا الممرضة التي ارتبط بها وهي حبلى، في المقابل كانت محتفظة بنسخة فوتوغرافية من عقد الزواج ورفعت قضية لإثبات نسب مولودها له، إثر إنكاره لنجله الرضيع، واعترف به عقب تعرضه لحادث سير.
على هذه الشاكلة جسدت السيدة «أم كلثوم» دور الممرضة في فيلم «فاطمة» الذي شاركها في بطولته أنور وجدي الذي جسد فيه «فتحي»، وهو العمل السينمائي الذي كتب السيناريو والحوار الخاص به الصحفي الراحل مصطفى أمين، مستندًا إلى قصة واقعية هزت الرأي العام المصري، في واقعة شهيرة بـ«أول قضية إثبات نسب في مصر»، وتمت إذاعته في السينما عام 1947.
كشف تحقيق منشور بمجلة «الشباب» تفاصيل القضية على أرض الواقع، والشخصيات الحقيقية في الفيلم كذلك، بالإشارة إلى أن الهانم هي السيدة هدى شعراوي رائدة حركة تحرير المرأة، أما «الأرتيست» فهي فاطمة سري، مطربة مسرحية مصرية مولودة عام 1904، وقتها وقع نجل الأولى، محمد شعراوي، وهو ابن الطبقة الأرستقراطية، في حبها، بعد أن أحيت الأخيرة حفلًا في قصره مقابل 20 جنيهًا.
ذكرت المجلة، نقلًا عن مذكرات «فاطمة»، أن «مصر لم تر سيدة شرقية نشرت مذكراتها على أي حادثة من الحوادث التي صدمتها في الحياة، لذا سيكون عملي هذا جرأة في نظر البعض الآخر، والحقيقة أنه واجب أكرهتني عليه الظروف وتكاتف شاب غني وبعض رجال المحاماة المشهورين لهضم حقوقي ودوس كرامتي وسلب ابنتي حقها في حمل اسم أبيها الشرعي».
وأردفت أنها عادت إلى العمل الفني، بعد توقفها عنه، لكي توفر المال اللازم لتربية أولادها، وهي المعروف عنها أنها كانت مطلقة ولديها ولدان، وكانت المفاجأة عندما أعلنت أن لديها أيضًا ابنة تُدعى «ليلى»، وهي حفيدة السيدة هدى هانم شعراوي، في واقع الأمر، من نجلها محمد شعراوي.
«فاطمة» كانت متزوجة من محمد شعراوي عرفيًا، وبعد هجره لها وعدم اعترافه بابنته لجأت إلى القضاء لإثبات علاقتهما، وفور علم «هدى» بالأمر خافت على مكانتها المجتمعية وطالبت نجلها بالابتعاد عن المطربة المغمورة وعدم اعترافه بزواجه منها.
رغم الشعارات التي رفعتها «هدى» في سبيل تحرير المرأة إلا أنها انحازت لنجلها دون «فاطمة»، التي أتت لتستعطفها حتى يعترف ابنها بمولودتهما، بل أجبراها على الإنكار: «لا يُدهشني أكثر من أن هدى شعراوي تقف مكتوفة الذراعين أمام ابنها، وهي ترى سيدة تطالب بحقها وحق ابنتها، في حين أنها تملأ الصحف المحلية والأجنبية بدفاعها عن حق المرأة».
لم تسلم «فاطمة» ورقة الجواز العرفي إلى «محمد» بعد اتباعها لنصيحة مصطفى النحاس باشا الذي قابلها في فيينا، وذلك حتى تثبت حقوقها، وما إن عادت إلى مصر وتناولت الصحف مشكلتها رفعت دعوى قضائية لإثبات النسب، ودافع عنها فكري باشا أباظة، عضو مجلس النواب.
بانقسام المجتمع المصري بين مؤيد لـ«هدى» أو لـ«فاطمة»، توعّد سعد باشا زغلول آنذاك بطلب إقالة الحكومة، لوجود ضغوط على القضاء الشرعي الذي ينظر دعوى النسب، بجانب ترجيح اعتماد «هدى» على تلفيق قضية آداب للأم تأكيدًا على سوء سلوكها.
في خضم الجلسات، صرحت «فاطمة» في حوار لمجلة «الصرخة»: «لما أعجزتني الحيلة، لجأت إلى القضاء، فمضوا يساومونني مساومات لا تقبلها أم تفكر في سعادة ابنها، وأخذوا يجزلون لي العطاء حتى بلغوا أخيرًا 25 ألف جنيه، وأخيرًا أدركوا أنني لا أريد شيئًا إلا ضمان مستقبل ابنتي».
وتابعت: «أوفدوا إليّ الأستاذ إبراهيم بك الهلباوي، فجاءني يعرض عليّ اقتراحًا جديدًا رفضته بكل ثقة، ذلك أنهم أرادوا أن يأتوني برجل من صنائعهم يعقد قرانه عليّ ويكون عقد القران سابقًا لمولد ابنتي، ويعترف ذلك الرجل ببنوة الطفلة فلا تنشأ مجهولة الأب وتصبح ابنة شعراوي أمام القانون ابنة رجل آخر»، قبل أن تبدي تقبلها الرجوع إلى زوجها، وهددته بالحجر عليه إذا رفض.
3 أعوام نظرت فيها المحكمة في أوراق القضية، إلى أن أصدرت قرارها لصالح السيدة فاطمة سري، وبقبول طعن هدى شعراوي قضت محكمة الاستئناف، في ديسمبر 1930، بصحة القرار الصادر أولًا، بصحة نسب الطفلة إلى محمد شعراوي.
داخل قاعة المحكمة سلمت «فاطمة» ابنتها إلى «محمد» الذي تولى تربيتها في القصر مع والدته، حارمًا الأم من رؤيتها فيما بعد، بجانب ولديها اللذين ضمهما إليه بحكم قضائي، بحجة «أنها غير أمينة على تربيتهما»، لتقرر اعتزال الفن فيما بعد.
المصدر : المصرى لايت